البقاء على قيد الحياة

تتلخص تفاصيل حياة المواطن السوري مع تطورات الأزمة الحالية بـ”أساليب النجاة”، فالأعمال المسلحة لم تكسر الأمان فقط بل أصبحت تهدد بقاءه بشكل عشوائي، وأصبح الإنسان بذاته مستهدفا مهما كان موقعه أو موقفه السياسي، وعند هذا الحد تراجعت الكثير من الاعتبارات أو الأولويات التي كان يراها أساسية في بداية الأزمة، حتى الهم الاقتصادي تجاوز المنطق العام الذي كان سائدا قبل 2011، بل اتخذ موضعا خاصا في بحث المواطن عن أسباب الحياة الأساسية.

وإذا كان الهاجس الأمني هو الأكثر حضورا فإن الهم المعيشي يرافقه بشكل مواز، حيث يمثل إستقرار الاقتصاد تطبيعاً للنظام السياسي في أي بلد. ومن البديهيات أن أول ضحايا الصراع السياسي هو الاقتصاد. وهذا ما كان متوقعاً في سورية، وهذا ما حصل. ولكن لم يبق الإقتصاد ضحية ثانوية للعنف بل أصبح مستهدفاً بذاته. فبين أطراف المعارضة التي استهدفت الإقتصاد لتهاجم التطبيع الذي يحاول النظام فرضه على الأزمة وبين النظام الذي استخدم التخويف من انهيار الإقتصاد كأداة لتدعيم الولاء له، انهار الإقتصاد السوري فعلاً. وهذا الإنهيار ليس مرحلياً أو سطحياً يمكن عكسه بسهولة، فلقد تهدم جزء كبير من البنية التحتية الاقتصادية في سورية وهربت رؤوس أموال كبيرة إلى خارج البلاد وسحبت الناس مدخراتها من التداول في السوق كما أوقفت الحكومة استثماراتها العامة التي هي غالباً عماد الحركة الاقتصادية.

إضافة إلى ذلك أدى العنف والعمل العسكري إلى تشريد أعداد كبيرة من الأسر السورية مبعدة إياهم عن مصادر دخلهم وأماكن عملهم. حيث يقدر عدد النازحين (داخل وخارج سورية) بأكثر من 2.5 مليون إنسان. والحصيلة أن أكثر من نصف القوة العاملة السورية أصبح عاطلاً عن العمل، بينما انخفض دخل الباقين بشكل ملحوظ. وبدأت الناس تأكل من مدخراتها. وحيث أن الكثيرين في سورية كانوا يعيشون قرب خط الفقر فإن أعداداً كبيرة منهم سقطت في الفقر المدقع ولم يعد لديها الحد الأدنى من الموارد لتحافظ على القيمة الغذائية الأساسية للبقاء على قيد الحياة.

شبكات الحماية الإجتماعية الرسمية لم تتعامل مع الموضوع بجدية وكفاءة وكذلك المنظمات غير الحكومية التي خافت في البدء من الإنجرار إلى مغبة المعاقبة من كل أطراف النزاع الذين أصر كل منهم أن لا تعبر المساعدات الإنسانية إلا من خلاله، ولم تبدأ عملها بفاعلية إلا في مرحلة متأخرة من الأزمة. وتحمل الرأسمال الإجتماعي الأهلي الجزء الأكبر من عبء المساعدات الأساسية للبقاء على قيد الحياة (الإيواء مع الأقارب والتشارك مع الجيران في الموارد، إلخ). إلى ذلك فإن موارد المجتمع المضيف بدأت بالنضوب، وكذلك قدرة بل وحتى رغبة الطبقات الميسورة في دعم الطبقات التي لا تملك مدخرات كافية للإستمرار. فمع استمرار الأزمة بدأ الجميع يحسب حساباً لقدرته الذاتية للإستمرار على العطاء بدون دخل، بعد أن ساد شبح الخوف على البقاء حتى بالنسبة للطبقات الوسطى والغنية.

في ظل تحدي البقاء على قيد الحياة تحول جزء من السوريين إلى الجريمة والعمل خارج القانون. وحاول الكثير من المتحاربين على طرفي الصراع الإستفادة من حالة الفوضى لتعزيز مكاسبهم المادية. هذا كله أدخلنا اليوم فيما يعرف باقتصاد الحرب، مما أدى بدوره إلى تسارع في انهيار الإقتصاد السلمي وهروب الكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد ومعهم الإستثمارات التي تشغل البقية من السوريين. وأصبحت سورية تدور في حلقة مفرغة من إنعدام الأمن الذي يولد انهياراً اقتصادياً الذي يؤدي إلى إزدياد العنف. وفي ظل اقتصاد الحرب تتشكل الإحتكارات وترتفع الأسعار ويصبح الحصول على أساسيات العيش عملاً مشوباً بالخطر.

في هذا السياق يصبح البقاء على قيد الحياة والحصول على لقمة عيش كريمة هو الهم الأكبر والشغل الشاغل لأغلبية المواطنين في سورية. وإذ ما زال الجزء الأكبر من السوريين يرتدع بقيم أخلاقية عن ارتكاب الجرائم لمجرد البقاء على قيد الحياة فإن الخوف والجوع سيخلقان ضغوطاً كبيرة على الروابط الإجتماعية وقد يأخذ جزءاً كبيراً من الناس إلى مسارات ليس لها أي سقف أخلاقي أو مبدئي. وهذا بدوره سيشكل عائقاً مستقبلياً لأي محاولة جادة لإعادة بناء اقتصاد سليم.

إلا أن المستقبل الإقتصادي، ناهيك عن السياسي، بات أبعد ما يفكر فيه الناس. لذا فإن الحديث عن الإصلاح السياسي أو شكل الدولة أو الدستور أو شكل المؤسسات الديمقراطية صار أمراً بعيداً وخيالياً، بل وحتى يعتبر إهانة للكثيرين الذين يرون أن أولوية العمل اليوم يجب أن تكون بإيقاف العنف وإيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين، وأن كل حديث غير ذلك هو جريمة لا تقل عن العنف الذي يحصد السوريين بدون استثناء. إن إصرار أطراف النزاع على تهميش هذه القضية وعدم إعطاء مشكلة البقاء على قيد الحياة أولوية على العمل العسكري والسياسي دفع جزءاً كبيراً من السوريين اليوم لرفض الموقف الأخلاقي لكل الأطراف المتصارعة وزاد من مقبولية أي حل للأزمة يوقف العنف ويضمن للناس لقمة عيش آمنة.

19
2
Thank you for your feedback

تعليقات

  1. ردين عيسى

    المواضيع العشرون المذكورة هي على قدر كبير من الأهمية للمواطن السوري في نظري، وإن كان الترتيب موضع نقاش بالإضافة إلى بعض النقاط والتفاصيل الموجودة تحت كل موضوع من هذه المواضيع. فمثلاً أنا لا أتفق مع التفاصيل المذكورة في الموضوع الخامس، وتبين لي أن الحل المطروح في هذه النقظة الإشكالية إنما هو حل من قبيل أن خير الأمور أوسطها، مع العلم أن هذه المقولة غير صحيحة دوماً.
    من ناحية أخرى، فإنني أرى – كمواطن سوري من حقي الإجابة عن السؤال المطروح أساساً – أن هناك نقطتين أو موضوعين مهمين جداً لم تشملهما المواضيع العشرين المذكورة. أولهما على صلة بعدم اتفاقي مع تفاصيل الموضوع الخامس، وهو أنني أرى أنه من الضرورة بمكان وضع منهج واضح لتحديد كل من كان مسؤولاً عن الخراب الذي وصلته إليه سوريا اليوم وعن حجم الدور لكل من كان مسؤولاً. فهناك من يمكن وصفه بالعميل والخائن لسوريا وهو من يستحق أشد أنواع العقاب، وهناك من ألحق الأذى عن جهل أو حماقة والذي يمكن أن يكون عقابه على درجة أقل. وبما أنني من غير المؤيدين لأي من أنواع العقاب الذي يمس النفس الإنسانية أساساً، فإنني أطرح فكرة تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة على غرار ما حدث في جنوب إفريقيا. لكن من الضروري أن يعرف كل سوري كيف وبسبب من وصلنا إلى هذه الدرجة من الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل والإنساني أيضاً.
    أما الموضوع الثاني والذي لا يقل أهمية عن الموضع السابق وكل المواضيع العشرين المذكورة، هو موضوع التعليم. وهو موضوع بحاجة إلى كثير من النقاش والعمل. فنحن إن لم نرتق بهذا القطاع فإننا لن نتمكن من بناء سوريا المستقبل التي تتحدثون عنها.

  2. محمود حسينو

    لا إصلاح اقتصادي في وجود فكر مهيمن يتبع طريقة المونولغ الأمني العسكري في مواجهة أي اعتراض، لا بدّ من متابعة الثورة حتى سقوط كل الأفكار البالية، قالها بشار الأسد سابقاً في أول ظهور له بعد بداية الأزمة عندما لم يكن أحد يطالب بسقوطه، “لا مكان للوسط”، وبذلك، نحن على الطرف الآخر المقابل له، حتى يخرج ويعتذر رسمياً عن جميع كلماته التي أشعلت غضب الشارع، ويعرض نفسه وكافة الأطراف المسؤولة عن تدويل الصراع لمحاكمة الشعب.

  3. Naim Nazha

    Stop the fighting and everybody stays in the same place, untill final settlemnt.

  4. سوسن أحمد

    إلا أن المستقبل الإقتصادي، ناهيك عن السياسي، بات أبعد ما يفكر فيه الناس. لذا فإن الحديث عن الإصلاح السياسي أو شكل الدولة أو الدستور أو شكل المؤسسات الديمقراطية صار أمراً بعيداً وخيالياً، بل وحتى يعتبر إهانة للكثيرين الذين يرون أن أولوية العمل اليوم يجب أن تكون بإيقاف العنف وإيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين، وأن كل حديث غير ذلك هو جريمة لا تقل عن العنف الذي يحصد السوريين بدون استثناء. إن إصرار أطراف النزاع على تهميش هذه القضية وعدم إعطاء مشكلة البقاء على قيد الحياة أولوية على العمل العسكري والسياسي دفع جزءاً كبيراً من السوريين اليوم لرفض الموقف الأخلاقي لكل الأطراف المتصارعة وزاد من مقبولية أي حل للأزمة يوقف العنف ويضمن للناس لقمة عيش آمنة…
    طبعا مع الجوع والبرد والتشرد …أصبح من الممكن أن يقبل الناس بأي حل يستر ماتبقى من إنسانيتها ويحترم بشريتها ….ويسد حاجاتها الأساسية …وهذه النسبة من الشعب السوري تزداد يوما بعد يوم …وعليه من الممكن أن نتنبأ قبولها بأي حل يكفيها شبح غياب أقل مفردات الحياة ….حال لم يلجأ أطراف الصراع لرمي السلاح والجلوس لطاولة الحوار .

  5. أريج محمد

    الترتيب ليس مهم….. وانا برأيي أي شي يصبح فوق الطبيعي بالبلد يصبح حديث البلد واهتمام السوريين….. فمن الطبيعي هلا الازمة وماينتج عنها والوضع يكون الحديث الأبرز والهم الأبرز
    إن كان مؤيد او معارض او همه الاصلاح او مواطن عايف حالو بدو الاسعار ترجع او رجعي او اصولي او سراق مابدو الازمة تخلص او رجل امن فاسد مابدو ينكشف اومن تجار الازمة
    من الاخير هاد الشعب السوري بيحمل هم حالو وهم غيرو وهم شعوب تانية والسياسة موجودة فيه من اول ماوعي ولكن لكل منه طريقته بالتعاطي بالموضوع تطرف او تشدد او حتى بالعدل
    وبالنهاية رح نجتمع على شي حل فقط لايقاف الدمااء ولكن سيبقى أثر في نفوسنا وفي ذهن الأطفااال…… لذلك في قدامنا شغل كتيررر

شارك برأيك

يسرنا قراءة إضافاتكم، لكن مع التنويه أن النشر على الموقع سيقتصر على المشاركات البناءة و النوعية، و لا نضمن أن يتم إدراج كل المشاركات