News and Opinion:
خواطر بعد رحلة إلى الوطن الأم

لقد قضيتُ أجزاء كبيرة من حياتي متنقلاً بين بلدانٍ كثيرة، عشتُ فيها و عاشرتُ أهلها. من الجزيرة العربية إلى أمريكا الشمالية إلى أوروبا. مررت بعشرات المطارات، و زرتُ عشرات المدن و سكنتُ فيها. خطت قدماي في الصحارى و الثلوج، و لفحت وجهي رمال ساخنة و أصقعة قطبية شديدة البرودة، و رأيت الحدائق و الغابات .ولكن مع كل مخزوني من الترحال، فكلما زرت موطني الأصلي، سوريا، لا أملك إلّا أن أقع في حبّ طبيعته من جديد. فسوريا، بحق، من أجمل بقاع العالم طبيعةً.

Article Images 01 - Beautiful Syria

زُرقة السماء في سوريا لونها مختلف. لا ترى مثله في أي بقعة من الجزيرة العربية، لا شرقاً و لا غرباً و لا شمالاً و لا جنوباً. و لا تكاد ترى لها مثيلاً في أمريكا الشمالية كلها، إلا باستثناءات صغيرة. سحبٌ ركامية بديعة الجمال تفور في الأفق الربيعي، تتلألأ تحت الشمس. ترابٌ أحمر قانٍ، كأنه مُضمّخٌ بدماء الأجداد منذ الأزل. خُضرةٌ بهيجة اللون، لا تكاد تعرف مثل نضرة لونها، خُضار و فواكه من أعذب و ألذّ ما وُجد في الدنيا. جمالُ تلك البلاد يكاد ينطق، و تشعر به يلامس قلبك، ملامسةً رقيقةً حانية.

Article Images 02 - Beautiful Syria Aleppo

و لكن، و خاصّة إذا كنت غائباً عن البلد لفترة، ما أن تنزل إلى الأرض، ببصرك و سمعك و كل حواسك، الحسية منها و الروحية، حتى تصدمك قباحة ما فعلناه نحن، أبناء هذا البلد الجميل، ببلادنا، و أنا لا أتكلّم عن الحرب فقط.

بكل تأكيد، فإن الأزمة و الحرب التي عصفت بسوريا عبر السنوات السبع الماضية، و لا تزال تعركنا، كانت أزمة في منتهى الخطورة، لم تشهد هذه البلاد مثيلاً لخطورتها الاستراتيجية منذ الغزو المغولي قبل ثمانمئة عام. و أي كلام قد يقال هنا في معرض التوصيف و التشخيص، لا يقصد أي انتقاص من خطورة هذه الحرب الشعواء، التي شُنّت على سوريا، و لا من أهميّة التضحيات الجسام التي بُذلت في سبيل إنقاذ بلادنا. فقدنا مئات الآلاف من مواطنينا و من أفراد الجيش العربي السوري، سقطوا و رووا هذ الأرض بدمائهم لتبقى سوريا. لأرواحهم و لتضحياتهم التقديس و الرحمة.

إلا أن التاريخ مليء بأمثلة عن أمم انتصرت في حروبها، لكنها لم تحسن تعلّم الدروس، و ظلت تجتر أزماتها و احتقاناتها الداخلية، لتهلك و تتفكك و لو بعد حين، فلم ينفعها انتصارها العسكري. و لعلّ من أهم الأمثة على ذلك و أشهرها، كان انتصار المشرق في الحروب التي اشتعلت ضد الغزو الفرنجي (الصليبي).، حيث تسببت هزيمة الغرب في قدح عصر النهضة لديهم، لأنهم بدأوا بطرح الأسئلة الصعبة، بينما ركن المشرق إلى انتصاره العسكري و رفض المراجعة و رفض طرح الأسئلة، لنغرق في قرون من الظلام، و لنستيقظ بعد قرون طويلة من الظلام على أوروبا مختلفة تطرق أبوابنا كمستعمر قاهر.

لا بُدّ من طرح الأسئلة الصعبة و لا مهرب من ذلك. لماذا قاتلنا؟ هل كان قتالنا بغرض النجاة فقط؟ أي سوريا نريد لأولادنا و أحفادنا؟ هل لدينا رؤية؟ ما هي هذه الرؤية؟ لماذا لا نتكلم عنها و نحاول رسمها بوضوح؟ هل لدينا مشروع لنصل إليها؟ و لماذا يجب أن نصل إليها؟ مُصطلحات “المقاومة” و “الممانعة” هي مُصطلحات نستخدمها للتعريف بأنفسنا، إلا أنها تعريفٌ لأنفسنا عبر الضد، حيث يحددُ اعتداءُ الآخرين علينا، هويّتنا. في هذه النظرة قصور و هي لا تصلح أن تعرّف رؤيتنا لأنفسنا و لمستقبلنا. بإمكان هذه البقعة من العالم، و  بإمكان أهلها، أن يُنتجوا ما هو أفضل من ذلك، بل من واجبهم أن يفعلوا. هذه مواضيع بحاجة إلى سنوات من البحث و الحوار، و لا يمكن بحال حصرها في مقال قصير، و لكن هذه محاولة.

باختصار، نحن لسنا بخير، حتى و لو أنجزنا انتصارنا العسكري على الإرهاب. هناك خلل كبير في رؤيتنا لأنفسنا و لمستقبلنا، و في طريقة تعاطينا مع مواطنينا و مع بعضنا البعض و مع البيئة. و إذا لم نقم نحن بتشخيص مواطن الخلل و علاجها، فلن يقوم بهذه المهة أحد.

يمكن القول بأن هناك نظريتان مطروحتان لتفسير التراجع المُخزي، و الذي يقارب الانهيار، الذي يضربنا. أولهما تقول أن الأسباب هي خارجية، و أن الاستعمار هو من يمنع بلادنا من التنمية و يحارب كل تجربة وطنية و يعرقل بشراسة و لؤم، كل محاولة لبناء أوطان حرة مستقلة. و أن تدخل القوى الغربية المتسلطة في بلادنا فج  و فادح إلى درجة يصل أذاها إلى كل إنسان يعيش على هذه الأرض. و أما الثانية فتقول أن السبب الأصلي داخلي، ذاتي، و أن الاستعمار يقوم باستغلال مشاكل و فوالق موجودة لدينا أصلاً، فيقوم بتعزيزها و تكريسها لخدمته. إلا أنه لا يجترحها من فراغ. النظرية الثانية تقول بأن مُسلّماتنا نحن و إقصائيتنا نحن و سلوكياتنا نحن هي من تُعاني من خلل بنيوي، و أنها بتركيبتها الحالية غير مُتَّسقة، و لا يُمكن لها بحال أن تنتج مجتمعاً متماسكاً، بل هي ستظل دائماً منبعاً لصراعات لا تنتهي، و مدخلاً واسعاً تنفذ منه كل قوى الشر إلينا.

النظرية الأولى تقول أن علينا أن نركز كل قوانا على التحرر الوطني و على دحر الهجمات المتعاقبة من قوى الاستعمار و من أذيالها و توابعها. و أنه حتى ذلك الحين، فإن عملية الإصلاح الاجتماعي يمكن تأجيلها و بإمكاننا التعايش، لا ريب على مضض، مع التخلّف و الفساد، إلى حين إنجاز عملية التحرر الوطني و دحر الخطر الداهم لقوى الاستعمار عن بلادنا. بعدها، سنتفرّغ لإصلاح البيت و تنظيفه من الداخل. أصحاب هذه النظرية يركزون أنظارهم على الاستراتيجي، و لا يلتفتون كثيراً إلى الآني و العارض. رؤيتهم تتلخص في التركيز على الهدف الأساسي و على العدو الخارجي الداهم، حيث يرون معركتنا الحقيقية، و يرون كل ما عداها تفاصيل، لن تذكرها كتب التاريخ. هؤلاء يعتنقون هذه الرؤية إلى درجة أن العناوين التي يعطونها لأنفسهم تُعرّفهم من باب معاداتهم للمشروع الاستعماري فهم “مقاومة” و “ممانعة”.

و أما النظرية الثانية فتقول أن الاستعمار إنّما ينفذ من ثغرات كبيرة موجودة في أساس بنيتنا، و أنّه لولا هذه الثغرات في التصوّرات و السلوكيات و الإدارة، لما تمكّن من النفاذ بهذه الفعالية المرعبة و بتكلفة جد منخفضة، وصولاً إلى هز كياناتنا بهذا الشكل. فأين الصواب؟ و أي النظريتين علينا أن نعتمد في تقييمنا؟

في رأي كاتب هذه السطور، فإن التصرف بناءً على رؤية النظرية الثانية أكثر إلحاحاً، و أن المعالجة بناء على هذه الرؤية هي شرطٌ لازمٌ للخلاص من الهيمنة الاستعمارية، و ليس العكس! إذ، في ما نرى، فإنه لا يُمكن إنجاز التحرر الوطني فيما نحن متفسخون من الداخل، بينما يُمكن صدّ أعتى الهجمات الخارجية عندما نكون متماسكين و مؤمنين من الداخل.

هناك اعتراض على هذه الرؤية، و هو أن الفوالق و المظالم و التناقُضات موجودة في كل مُجتمعات الدنيا، بما فيها الغرب نفسه. و أنه يكفينا أن ننظر إلى مدن مثل لوس أنجلوس أو باريس عندما ينقطع فيها التيار الكهربائي و سنرى أن نسبة الجريمة تتضاعف مئة مرة خلال ذلك. و أن كل تلك الجرائم تحدث عندهم بدون تحريض خارجي، و بدون ضخ للكراهية من مئات القنوات الفضائية، و بدون حدود مفتوحة تهرّب مئات الأطنان من السلاح و عشرات آلاف المتطوعين المتحمسين المستعدين لتفجير أجسادهم، فما بلك لو سُلّط عليهم مثل الذي سُلّط على سوريا؟

هذا اعتراضٌ مشروع، و لكن له جواب. و جوابه أولاً أننا، حالياً على الأقل، لا نملك التأثير المباشر على قرار الغرب الاستعماري بتدخله في شؤوننا و في بلادنا، فقرارهم بالتدخل و العرقلة خارج نطاق سيطرتنا، بينما رؤيتنا لأنفسنا و سلوكياتنا هي تحت إرادتنا و بالتالي هي أولى بالجهد.

و الجواب الآخر على هذا الاعتراض، أن لا العالم محصورٌ بالغرب، و لا الغرب مقتصرٌ على أمريكا، و هناك أمثلة كثيرة يمكننا أن نرجع إليها، شهدنا فيها صموداً للمجتمع أمام محن كبيرة. لقد رأينا كوارث طبيعية تضرب بلداناً كثيرة مثل اليابان و كندا و بلداناً أوروبية مختلفة، لم ينتج عنها انفلات في المجتمع. عندما ضرب التسونامي اليابان قبل سنوات، رأينا اليابانيين يساعد بعضهم بعضاً، في مشهد يعرّف التحضر و الحضارة و الإيمان بالوطن، و لم تحدث سرقات على مستوىً واسع أبداً. في كندا، تقطع العواصف الثلجية العنيفة خطوط التيار الكهربائي أحياناً، فنجد الناس يساعد بعضهم بعضاً، و يتطوعون لتنظيم حركة السير في الشوارع و يساعدون من يعلق في الثلوج. و قد قرأنا أن سكان فيينا عمدوا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، و في حضيض المرارة من هزيمتهم، عمدوا إلى إخفاء محتويات المتاحف الثمينة في بيوتهم، حمايةً لها من نهب الجنود البريطانيين. فإذن هناك أمثلة عديدة على مجتمعات تقاوم بنجاح الانهيار نحو الفوضى.

بالطبع، نحن لسنا مع جلد الذات، و لسنا مع التقريع و الانتقاد المجّاني، بل نريد ان ندرس و نفهم ما الذي يجعل بعض المجتمعات تتماسك، و ما الذي يجعل بعضها الآخر يتهتّك و يتفسّخ. و نبدأ من افتراض أننا في سوريا و الهلال الخصيب، و المنطقة العربية عموماً، مجتمعات بشرية طبيعية. لسنا أفضل و لا “أرقى” من غيرنا بجوهرنا، و لكن كذلك لسنا أسوأ من غيرنا، و أن لدينا القابلية للترقي و النجاح كما أن لدينا القابلية للتوحش و الهمجية.

نعم، و بلا شك، فهناك ضغط غربي استعماري شديد لعرقلة التنمية في بلادنا. هناك تدخل شمولي و جارف يكتسحنا على مستويات عديدة، من الحصار الاقتصادي، إلى الحصار الديبلوماسي، إلى محاولات عنيدة لمأسسة تقسيم المجتمع على كل فالق يمكنهم العثور عليه: إثني أو مذهبي أو طائفي أو اجتماعي أو اقتصادي. و نعم، هناك بث منظّم لثقافة الكراهية و الريبة و عدم الثقة، و هناك ضخ للسم الزُعاف في تصورات الناس و نظرتهم لأنفسهم و لمن يعتبرونهم “آخر” عبر آلاف ساعات البث يومياً الموجهة للمنطقة. ثم هناك تدخل عسكري مباشر في الكثير من الحالات، يدمّر البنى و المكتسبات الاقتصادية و الاستراتيجية للدول الناشئة، فيعيق حركتها المزيد، و يوقعها في دوامات لا تنقضي. لا شك في كل هذا، و بالتالي فالنظرية الأولى مُحقّة في أن التحرر الوطني ضرورة ملحّة، لكن الاختلاف يكمن في كيفية العبور نحو التحرر المنشود.

Article Images 03 - Soft Power

كان لسان حال النظام في سوريا عبر العقود الماضية يقول لمجتمعه: <<هذا الغذاء و الوقود متوفرة بأسعار رخيصة تمكّنكم من مستوى من العيش الكريم، و هذا التعليم المجاني متوفر و هو ذو سوية جيدة، و هذه الطبابة مُتاحة مجاناً و هي أيضاً ذات سوية جيدة، و هذه التجارة متاحة لمن يستطيع و الربح متوفر، فماذا تريدون غير ذلك؟ كلوا و اشربوا و ربّوا أولادكم، و اتركونا نعمل لأجل التحرير، و ثقوا باننا نعمل بإخلاص و بأقصى ما نستطيع، و اصبروا على شيء من الفساد و شيء من سوء الإدارة الذي سنلتفت إليه ما أن نستكمل التحرير.>> فهل كانت هذه المقاربة ناجحة؟

بكل أسف، لم تكن ناجحة. السلوكيات الاجتماعية قبل عشرين عاماً، و قبل عشرة أعوام، و اليوم في عام 2018، لا زالت مخيبة للأمل و لا تُبشر بخير. انظر حولك و سجل المظاهر التي لم تتغير منذ عقود: آلاف الأذرع، على مدار الساعة، تُلقي بالمهملات في الشوارع بلا هوادة حتى أحلنا كل زاوية و كل مكان تصله الأعين في بلادنا الجميلة إلى مزابل مؤذية للنظر و للصحة. الملايين من أكياس النايلون و أعقاب السجائر و القمامة تملأ الأرض و تخنق الأشجار و التراب، لا مهرب من منظرها لا في حل و لا في سفر، أينما تلفتّ في سوريا. كلّ قطعة قمامة منها لم تهطل مع المطر و لكن رمتها يد مواطن أو مواطنة سورية، هم مُذنبون بانتهاك طبيعة بلادهم. أطفال المدارس صارت لديهم طقوس سنوية في تمزيق كتب المدرسة و نثرها في الهواء بابتهاج عند نهاية كل سنة، في مشاهد طقسية مُخزية أمام كل مدارس القطر. السيارات تدافع بعضها بوقاحة و لا ترحم ماشياً. لا أحد يحترم الدور. الرشوة و الكذب و الانتهازية في كل مكان. و الفساد الفساد، و ما أدراك عن درجة استفحال الفساد.

Article Images 04 - Polluting our Environment

هل نحن “بذرة عاطلة”؟ كما بحث الدكتور عمرو نجار في برنامجه الممتع و القيّم على اليوتيوب “ديستوبيا عربي”؟ هل نحن شعوب يعشش التخلف في دمها و جيناتها و لا أمل في إصلاحها؟ باختصار، و كما يقول الدكتور عمرو نجّار، لا! لسنا بذرة عاطلة، و لسنا عصيين على الإصلاح و لا على الارتقاء. فما سبب كل هذا التهتّك إذن؟ و كيف فشلت سياسات أرادت في جوهرها تأمين احتياجات السكان، و أرادت ذلك بإخلاص فيما نعتقد؟

إذا حاولنا أن نجد القاسم المُشترك بين كل السلوكيات السلبية التي نلاحظها، فإننا سنجد مبدأً مركزياً واحداً، يصبُغ الجزء الأكبر من مواطنينا بكافة شرائحهم، و هو ما يمكن الإشارة إليه بعنوان “أنا–الآن، و لا شيء غير ذلك.” كم كان نهاد قلعي عبقرياً عندما خرج بعبارة “كل مين إيدو إله” لتصف حالنا بدقة، منذ ما يزيد على الخمسين عاماً. في كل الممارسات المرذولة التي نرصُد، فإن القاسم المُشترك هو انتفاء الإيمان بأي جامع أكبر من الأنا الشخصية و اللحظية. “أنا-الآن، و لا شيء غير ذلك”. أي أنني أسعى إلى الفائدة أو الراحة الآنية دون أي اعتبار لأي أفراد آخرين، دون اعتبار لجار، دون اعتبار لمصلحة عامة، و دون اعتبار لمستقبل بعيدٍ و لا قريب. هذه الورقة انتهت حاجتي إليها في السيارة؟ أفتحُ النافذة و أُلقِ بها خارجاً و لا أُبالي. أنا مُستعجل و ضجر من الشوارع؟ سأكسر على السائقين الآخرين و أتخطّى الدور لأكسب بضع ثوان. لديّ القدرة على الاستفادة من هذا المركز الذي أجد نفسي فيه اليوم؟ سأنتهز موقعي إلى أقصى حد ممكن، و سآخذ الرشاوى الفاحشة حتى و لو من صفقة أدوية أو غذاء تشتريها الدولة و تمرّ من خلالي، و لن أُبالي بغدٍ قد يأت و قد لا يأتي. انظر حولك، و سترى مئات التجلّيات لنفس

المبدأ.

Article Images 05 - Destroyed Factories

Article Images 06 - Copper

و لمن يعتبر أن هذه السلوكيات لا تعدو كونها تفاصيل صغيرة غير ذات أهمية أمام “المعركة الكبرى” و “المواجهة التاريخية” التي نخوض، و أن الاحتجاج عليها لا يعدو كونه تَنَوُّقاً و حساسيةً مُفرطة في غير محلها، لهؤلاء نقول كلّا، بل هذه السلوكيات مؤشراتٌ حقيقية و خطيرة على تهتك فادح في المجتمع. و نذكّرهم بقول معروف عن موشي دايان، وزير الحرب الإسرائيلي الراحل، إذ قال موجّهاً كلامه للإسرائيليين: “لا تقلقوا من أعداد العرب الكبيرة حولنا ما داموا على سلوكياتهم التي تشهدون. فقط، عندما يبدأون بالوقوف في الطابور للصعود إلى الباص، حينها ابدأوا بالقلق”. لا يُمكن للوحة أن تكون مشرقة مُنتصرة، في حين أنك أينما اقتربت منها لتنظر عن قرب، صدمتك الأنانية و القباحة. لا، ليست ثانوية، بل هي مؤشرات خطيرة.

هل يُمكننا أن نلوم الاستعمار على هذه السلوكيات؟ رُبّما، و هناك حُجج بليغة و دراسات عن فداحة تدخل الاستعمار للتخريب على كل مستوىً في بلادنا. لا ننكر ذلك. و لكنّي أرى أننا إن قبِلنا أن نلوم الاستعمار و “المؤامرة” على هذه السلوكيات مرّة، فعلينا أن نلوم أنفسنا عشر مرات، بهذه النسبة. غير أن الغرض من هذه الكتابة ليس اللوم و لا التقريع، بل محاولة الفهم، و من ثم محاولة العلاج.

ما تفسير هذا التخلّي؟ ما تفسير هذ الكُفر بكل ما هو آخر و كل ما هو ليس آنياً؟ و هل له علاقة بسياسات الدولة تجاه المجتمع خلال العقود، بل القرون الماضية؟ أنا أقول نعم، و بكل تأكيد. عندما تختزل الطاقة البشرية الهائلة، بعواطفها و طموحاتها و دوافعها التي تحركها إلى غذاء رخيص متوفر و علاج و مسكن و ترفيه، لكن بلا رأي و بلا مشاركة، فأنت تسبح ضد تيار الطبيعة البشرية، و ستخسر و تتسبب من حيث لا تحتسب في نشوء سلوكيات مريضة لدى الفرد و لدى المجتمع. و هنا أود أن أشير إلى ظاهرة تعرف في علم النفس السلوكي بال (Learned Helplessness) أو ما يمكن ترجمتها بالعيّ المُكتسب، بمعنى الوصول إلى حالة من اليأس و الاستسلام من إمكانية التأثير في الظروف التي تؤذيك. و في التعريف الكلاسيكي لهذه الظاهرة فإن العيّ هو اقتناع الإنسان بالفشل في التأثير على الواقع الذي تعيشه، و خاصة الفشل في الحصول على المرغوب و تجنّب المكروه. هذا الاقتناع لا يُشترط أن يكون صحيحاً، بل يكفي الاقتناع و إن كان في غير محلّه. و خطورة هذه الظاهرة المُثبتة تكمن في أنه عندما يصل الإنسان إلى هذه الحالة من العَيّ بسبب مُنغصٍ ما، فإن الدراسات تخبرنا بأنه يُعمّم هذه النتيجة على أشياء لم يُجرّبها، و يصل (بسهولة) إلى نتيجةٍ مُفادها أنه عديم الحيلة بشكل عام، حتى في تحدّيات لم يجرب مُقارعتها. ف “لا حول و لا قوّة” و “شو طالع بالإيد؟” و النتيجة؟ النتيجة هي الاستسلام و الاكتئاب و التخلّي عن المحاولة، مع ضرر آخر كبير يُصيب القُدرة على التعلّم و الاستنتاج. فالتعلّم يأتي من القدرة على ربط التجربة أو الاختبار بالنتيجة، فعندما ينقطع هذا الربط، يتعطل التعلم. و إذا تعطلت قدرتك على التعلم فلن تفيدك لا التجارب و لا الآلام و لا الدموع،  و ستذهب التضحيات هباء.

Article Images 07 - Learned Helplessness

ممارسة واحدة للفساد، يراها المواطن تمر بلا حساب و لا عقاب، و لا أحد يرد على تظلّمه و لا شكواه، ستدفع به إلى هذا اكتساب هذا العيّ. إهانة يتلقاها شرطي مرور من أرعن متسلّط، تمر دون حساب، ستدفع به إلى اليأس من العدالة. ممارسة واحدة من هذا الشكل كافية لتغيير تفكير ذلك الشرطي بقية عمره، خاصّة عندما يرى أمثالها تحدث حوله كل يوم. قاضٍ فاسد واحد، سيتسبب في كُفر آلاف المواطنين بالوطن و بالدولة. و من هُنا يُمكننا أن نرى أن انسحاب المواطن إلى الأنا المباشرة و الآنية ما هو إلا نتيجة طبيعية لرفضه التعاطي مع كل ما لا يرى لنفسه عليه أي تأثير. ما شأني أنا بالوطن أو بالشارع أو بالمرافق العامة أو بالشأن العام إذا كنت لا أُقدم و لا أؤخر و لا أحد يهتم لي. فالأحصر اهتمامي إذن بما يمكنني التأثير فيه: “أنا-الآن، و لا شيء غير ذلك”.

فقد رأينا إذن، أن هناك قاسم مشترك بين جُلّ (إن لم نقل كُلّ) السلوكيات المُضرة هو مبدأ “كل مين إيده أله”، و رأينا أن السبب الأساسي لاستسلام المواطن لهذه العقلية هو اقتناعه بانقطاع تأثيره عن الواقع الذي يعيشه. “كلوا و اشربوا و تطببوا، و اتركوا العمل المؤثر لنا، فلا دور لكم فيه، و تغاضوا عن شيء من الفساد في سبيل القضية” مهما افترضنا من صدق نية من عمل بها، و مهما قدمنا من أعذار قد تُفسّر لجووء السلطة لهذا المنهج (كضيق الوقت و الإمكانيات مثلاً)، فإن الانتهاء إلى مواطن سلبي، منسحب إلا من اهتماماته الضيقة الآنية المباشرة، هو نتيجة حتمية لهذا المنهج، و هي نتيجة وخيمة العواقب.

و هناك حتميةٌ أخرى، أوردها لمن يرى أن الأولوية هي لمقارعة الاستعمار و التحرر الوطني: أنت لن تحرر الأوطان بمواطن منسحب، سلبي، متقوقع على نفسه، مهزوم من الداخل، كافر بمجتمعه و بِغَدِه. التحرير لن يحدث أبداً بمواطن كهذا.

Article Images 08 - Smoking

و إذا ما عُدنا قليلاً إلى بداية الأزمة. ما الذي هيّج هؤلاء الشباب ذلك الهياج الفظيع؟ دعك من المال. لا أحد يرمي بنفسه إلى الموت فقط لأجل المال. لقد جاء من يقول لهم “بل أنت مهم، و مؤثر، و أساسي، و لك دور في بناء الغد، و سنظهرك على القنوات التلفزيونية، و سنرفعك في المحافل الدولية، و ستأخذ الجوائز أمام جماهير غربية أنيقة في صالات فارهة، لأنك مهم”. طبعاً، و دون أدنى شك، كانوا يعبثون بأحلامهم و يورطونهم بشكل إجرامي شيئاً فشيئاً في طريقٍ لا عودة منه، مع دعم بالمال و السلاح. هذه هي القوة الناعمة (soft power) التي طوّر مبادئها جوزف ناي (Joseph Samuel Nye) ، و التي اعتنقها نتنياهو و عمل على استثمارها بلا كلل. نعم، لقد نفذ الاستعمار إلى هؤلاء الشباب عبر ثغرة كبيرة كان نموذنجنا القاصر في تصوّره للطبيعة البشرية يحتّم وجودها. نفذ إليهم، و طوّعهم لما يريد، و هو بلا شك لا علاقة له لا بحرية و لا بديموقراطية و لا بتنمية و لا بحقوق إنسان، بل لنشر الفوضى و التخريب، و لتعطيل التنمية و تدمير المكتسبات. لكنّ الاستعمار الغربي عدوٌ بائن للمصالح الوطنية، فهل نلومه على نفاذه من ثغرة كبيرة كانت فاغرة متروكة؟ كان لسان الحال يقول لأولئك الشباب، تنحّوا جانباً، فأنتم لا دور لكم و لا مكان. فجاء من يقول لهم، بل الدور دوركم، و اليوم يومكم، و أنتم في القلب و في المركز، و لستم بلا حيلة، بل أنتم ستغيرون التاريخ. لا حافز أكبر من أن يكون لك دور في صناعة الواقع و التاريخ، و لا مُثبّط أنكى من أن تتجرّع طوال عمرك أنك لا دور لك و لا مكان، و مطلوب منك أن تتنحّى و تصمت.

أورد بعض الأمثلة: قبل الأزمة، عانت منطقة الجزيرة السورية من جفاف مطري حاد امتد لعدّة سنوات. أدى ذلك إلى ضائقة اقتصادية شديدة ضربت ذلك الريف المنتج للغذاء في سوريا، و دفعت بعشرات الآلاف من أبناء تلك المناطق إلى النزوح إلى حواف المدن الكُبرى بحثاً عن أعمال هزيلة الدخل. لم نشهد مناقشة لتلك الأزمة على الإعلام السوري. لم نر برامج تلفزيونية تتحدث عن الجفاف و عن معاناة أخوتنا المزارعين من ذلك. لم نر مبادرات لمساعدة أبناء الريف. لم يُعط الإعلام السوري تلك الشريحة منصة للتعبير عن معاناتها. نعم، قامت الدولة ببعض الخطوات لتفادي استفحال الأزمة إلى كارثة، لكن التعاطي كان عبر فلسفة العمل بصمت.

Article Images 09 - Drought

مثال آخر: خلال الأزمة، انتشرت قصة عن شابّ متسلّط (شبيح) قام بإطلاق النار و قتل ضابط كبير في الجيش، إثر خلاف مروري. و فيما اشتعلت صفحات المعارضة باستغلال هذه القصة إلى أقصى حد ممكن، لا أذكر أنني رأيت أية مناقشة لها على أية منصة رسمية أو شبه رسمية في البلاد، و لا زلنا إلى الآن لا نعرف عبر أي قناة رسمية، ماذا كانت نتيجة هذه القصة. أيضاً العمل بصمت و إهمال الرأي العام في قضية فادحة التأثير مثل هذه. ألا من يفهم تأثير قصّة كهذه على نفسية المُقاتل في الجيش؟

Article Images 10 - Tashbee7

قد تكون فلسفة العمل بصمت صحيحة و ضرورية في بعض الحالات، إلا أنها ليست أبداً المعالجة الأمثل في المشاكل التي ينتشر صيتها بشكل واسع، بل ينتج عنها ضرر أكبر من الفائدة. و الضرر الأساسي هو تكريس نظرة المواطن السلبية بأنه لا يُشارك، و لا تتم استشارته و لا حتى إعلامه. و تتكرّس لديه القناعة بأنه غير قادر على التأثير على مُحيطه، و أنّ رأيه لا يُسمع و لا يهم، و أن الدولة إما أنّها غير قادرة أو غير راغبة في مكافحة الفساد. حادثة واحدة تُترك سُدى، كفيلة بهدم الثقة لدى الآلاف من المواطنين، و ماذا ينتج عن هدم الثقة؟ الكفر بالمجموع، و الكفر بالغد، و البحث عن المنفعة الآنية المباشرة: “أنا-الآن، و لا شيء غير ذلك”.

Article Images 11 - Tafeesh

قبل الأزمة كان هناك من يقول بأن توجيه المجتمع ليس من مهام الدولة ولا اختصاصاتها، و أن المجتمع يجب أن يُترك لقواه و عوامله الذاتية. نحن نرى أن هذه النظرة غير صحيحة، و خاصة في بلد مثل سوريا، حيث أنك إن تخلّيت عن هذه المهمة فهناك من القوى الإقليمية و الدولية من سيقفز ليقوم هو بتوجيه مجتمعك إلى مكان لا تريده. في بلجيكا، على سبيل المثال، قامت السلطات البلجيكية مؤخراً بعزل الأئمة المدربين وهابياً، و بدأت بالعمل مع الجالية المسلمة هناك على اختيار أئمة ملائمين للإسلام الأوروبي، إن صح التعبير، فهي قررت التدخل في توجيه مجتمعها، و لم تتركه نهباً للمال الوهابي. و في سوريا كذلك، لا مناص عن مشاركة الدولة في توجيه المجتمع. لن يكون هذا التوجيه، و يجب ألا يكون، حصرياً إقصائياً للقوى الأخرى، و لكن التخلّي عنه هو بمثابة ترك جبهة شاغرة أمام العدو.

Article Images 12 - Corruption

التوجيه المنشود، بالمناسبة، لا يمكن أن يقتصر على سن القوانين. فالقانون، و آليات فرضه (من شرطة و قضاء) لا تقدر على رصد و لا على محاسبة الأخطاء عندما تزيد عن نسبة صغيرة، ربما 2% من السكان، أما عندما تعمّ البلوى، باستعارة التعبير الفقهي، فالقانون لا يعود هو الأداة المناسبة، بل لا بد من طرق أخرى.

يجب ان يبقى السؤال أمامنا: أي سوريا نريد لأبنائنا و أحفادنا؟ هل، سنقبل بعد كل هذه الدماء التي بُذلت، أن يستمرّ الفساد في نخر عظام الدولة و المجتمع؟ و هل سنقبل أن تبقى هناك عصابات تسرح بلا حسيب في الكثير من المناطق السورية المحسوبة على الدولة؟ هل سنقبل أن يُترك محسوبون علينا، يعرف الجميع أنهم ممن استغل الفوضى لينهب مؤسسات الدولة الإنتاجية، فيم يعلقون صور الرئيس على سياراتهم؟ هل بُذلت كل هذه الدماء لتستمر مثل هذه الممارسات؟ يجب أن يكون الجواب حاسماً و مُدويّاً.

Article Images 13 - Reconstruction

لكن، و كما أنتجت هذه الأزمة الرهيبة مآسي في سوريا، فلعلّها كذلك أنتجت آمالاً بالتجديد و الإصلاح العميق. مئات الآلاف من أبناء الجيش العربي السوري البطل، قاموا بدورهم، و وضعوا دماءهم على المحك و نجحوا بدحر الإرهاب و قرف رقبته. هؤلاء الشباب، و الذين سيقودون سوريا عبر العقود القادمة اكتسبوا ثقافة الفعل و التأثير، و تخلّصوا من فخ اللا دور و اللا أهمية و اللا مشاركة إلى الأبد، و هذا إنجاز كبير.

و الفتنة الطائفية الخطيرة دفَنَها تحت التراب أهالي الشهداء المذبوحين، عندما استقبلوا في بيوتهم و مُدُنهم النازحين من كافة المحافظات السورية، بترحابٍ و كرامة بالرغم من جراحهم المؤلمة. و صبّ فوق التراب صبّة سميكة من البيتون، شبابُ الجيش العربي السوري الذين آمنوا بالوطن و رفضوا الانقياد للفتنة. في سوريا، و بمساعدة الحلفاء الصادقين، قطعنا دابر الفتنة الطائفية في العالم الإسلامي لجيلٍ أو جيلين قادمين على الأقل، و ربما لأبعد من ذلك. فعلنا ذلك نيابةً عن العالم أجمع، و أنقذنا بذلك ملايين الأرواح، و هذا إنجاز كبير جداً. يجب أن نُعرّف مواطنينا المنسحبين بأننا قد أنجزنا هذا الإنجاز، و أن مجتمعنا قد فعل، و أن فعله قد غير التاريخ.

و الإعلام السوري بدا بالتحرك بفعالية أفضل و نفس جديد يسمح للمُراسل بالارتجال و بشيء من الخطأ، و بدأنا نرى إعلاميين يصعدون بجرأة إلى الباصات التي تنقل المسلّحين إلى إدلب، مع بث مباشر، لا يرتعدُ خوفاً من كلمة قد تفلت من هنا أو هناك، و هذا تطوّر ممتاز يجب أن يُشاد به، و هو أيضاً يصنع تغييراً.

و الآلاف من السوريين الذي تقدموا بالعمل الطوعي، و بجمع التبرعات، و بتحضير الوجبات للمقاتلين و بتنظيم مراكز الإيواء، كلّهم فعلوا و شاركوا و ساهموا في خلاص سوريا.

Article Images 14 - Victory

لكن لا يزال أمامنا درب طويل للتخلص من عقلية كل مين إيده إله، و لبناء إنسان جديد، يؤمن بالوطن، و يشعر بمسؤوليته عنه. لن يقبل منّا التاريخ، و لا أبناؤنا بعد اليوم أن نتغنّى بجمال سوريا، فيم نحن من يلوّثها، و لا أن نشتكي من الفساد فيما نُمارسه، و لا من الرشاوى، فيم نحن ندفعها يميناً و شمالاً و فوقاً و دوناً. لن يظل مقبولاً أن نتكلّم عن الحضارة و التحضر، فيم نحن لا نعرف بعدُ كيف نقف في الدور في صيدلية. يجب أن نقتنع بأن لا مكان للسلبية و التخلي و الانسحاب بعد الآن. و أننا و كما سبق أن تعلّمنا هذه الثقافة السلبية الهدّامة عبر قرون من الاستعمار، يمكننا أن نتعلّم التخلص منها، و أن نتعلّم من جديد الإيمان بالوطن، و هذا يحتاج إلى تظافر قوى الدولة و قوى المجتمع؛ إلى مشاركة الجميع.

داخلياً، كانت المشكلة الأساسية في سوريا، برأينا، مُشكلة عقلية و رؤية و إدارة. لم تكن أبداً مشكلة جوع و لا عراء. و لبناء الإنسان بعقلية جديدة تبني على مكتسبات الماضي و تتجنب أخطاءہ  علينا التركيز على التعليم، و زرع ثقافة المشاركة، و على الإعلام، و على التعامل مع الفساد بحلول خلاّقة قابلة للتنفيذ. كلّ هذا مُمكن التحقيق، و كله ضمن إمكاناتنا، و هو من حق سوريا البديعة المبدعة علينا.

بقلم مازن صالحي



Comments (3)


Nidal Alkhoudari said:

وضعت اليد على الجرح مازن

April 1st, 2018, 5:12 am

 

صلاح الدين يوسف said:

كلمات عربي سوري أصيل شريف وعاشق لسوريا أرض العز والسؤدد والشآم ولو جار الزمان … أشد على يديك ..

April 1st, 2018, 2:45 pm

 

Mazen Salhi said:

شكراً نضال، شكراً أستاذ صلاح الدين.

April 3rd, 2018, 4:42 am

 

Post a comment