News and Opinion:
سورية… ظلال التقسيم
Sunday, November 30th, 2014
سورية… ظلال التقسيم | بقلم مازن بلال
أثار حديث جوشوا لانديس، مدير مركز أوكلاهوما لدراسات الشرق الأوسط، لمحطة CNN حول تقسيم سورية الكثير من الجدل، ولا تكمن المشكلة في شكل التقسيم بل في كون هذا الحل يصدر عن باحث خبير بالشأن السوري من جهة، إضافة لاهتماماته بالجماعات الإسلامية التي انتشرت منذ بداية الأزمة، فالحل المقترح من جوشوا لا يبدو جديدا بقدر كونه مؤشرا على اتجاهات التفكير السائدة في مراكز الأبحاث، ومن جانب آخر يمثل خروجا عن القاعدة التي تم اعتمادها في عدم المساس بمنظومة الدول الإقليمية، ومحاولة خلق توافقات داخل كل دولة؛ تضمن على الأقل عدم الانهيار الكامل للشكل الإقليمي، فهل يلبي التقسيم تصورات قادمة للشرق الأوسط؟!
شروط التقسيم التقليدية
لا يملك شرق المتوسط، بما فيه بلاد الشام تصورا مسبقا لمسألة التقسيم، رغم أن أقدم صورة لهذا الموضوع تقدم معاهدة سفير التي منحت قائد الاسكندر (سلوقس) حق الحكم في سورية، لكن مسألة التقسيم وفق مفهوم الدول المعاصرة لم يظهر إلا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما تم وضع مؤتمر سان ريمون الآلية النهائية لاتفاقية سايكس – بيكو، ويمكن ملاحظة ثلاث أمور أساسية لجملة التكتيك السياسي الذي حكم المنطقة في العقدين الأولين من القرن العشرين:
- كان التقسيم معبرا عن نظام دولي جديد؛ تم فيه إزاحة الأمبرطورية العثمانية نهائيا عن الخارطة، كفكرة أو مشروع، فاتفاقية سايكس بيكو هي أكثر من اقتسام نفوذ، لأنها إعادة رسم جيوستراتيجي للعالم.
- إن آلية التقسيم أخذت صورة نهائية مع استقرار ميزان القوى الدولية، وعلينا التذكر هنا أنه ما بين سايكس – بيكو واتفاقية سان ريمون كان هناك “اتفاق وسيط”؛ هو معاهدة سيفر التي شكلت تقسيما مختلفا عما ظهر لاحقا، وكان إلغاؤها تعبير عن توزع مختلف للقوة في المنطقة، فنسف حق الأكراد في إقامة دولة، ومنحت تركيا الحديثة أراض إضافية.
- تبدو عمليات التقسيم “كلية”، فهي تطال المنطقة بأكملها، ولا يمكن حصرها ضمن جغرافية محددة، وهذا الأمر منع سابقا تقسيم لبنان إلى كانتونات، ويعرقل اليوم “حل الدولتين” في فلسطين، وقبول المجتمع الدولي بـ”يهودية إسرائيل” لأنه يعني سياقا جديدا في مفهوم الدولة داخل الشرق الأوسط.
ومن الملاحظة الأخيرة يمكن أن نقرأ التعسر في الحل للمسألة الفلسطينية، فرغم أن قرار تقسيم (181 لعام 1947) مازال يشكل أرضية التعامل مع حل الدولتين، لكنه قرار صادر عن الجمعية العامة وليس عن مجلس الأمن، فهو يضمن “شرعية إسرائيل” الدولية لكنه لا يعبر عن توازن دولي خاص، وعندما يتم طرح إطار الدولتين اليوم فإنه يعني تقسيما جديدا ربما يحتاج لتصور مستقبلي للشرق الأوسط وبلاد الشام.
مأزق التقسيم وتوزيع القوة
مع بداية الحرب العالمية الثانية توازنت الخطوط الجيوستراتيجية لمعاهدة سان ريمون، وتم بناء الدول الإقليمية وفق هذا التوازن، ففرنسا أعادت تكوين لبنان من خلال اقتطاع مساحات كانت سابقا من حصة سورية، واستكملت بناء الحزام الشمال عبر منح لواء اسكندرون لتركيا، وفي المقابل فإن بريطانيا تعاملت مع فلسطين وفق سياق “إسرائيل” الحالي، وليس على اساس عملية تقسيم قادمة، فالدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أرادت في النهاية فرض واقع استراتيجي جديد يقوم بعزل هضبة الأناضول بالدرجة الأولى، وهو ما يضمن عزل “الدول التاريخية (هضبتي الأناضول وإيران بالدرجة الأولى) عن التحكم بتوازنات الشرق الأوسط عموما.
كانت المشكلة الأولى لهذا التقسيم هو اعتماده على “مركزية الدول” المستحدثة، فلم يمضي وقت طويل حتى تحولت تلك الدول إلى “النموذج التركي؛ من خلال تحكم النخب العسكرية بالحياة السياسية، ولا يمكن استثناء “إسرائيل” من هذه الحالة، حيث حكمها “حزب العمل” بالتحالف مع المؤسسة العسكرية حتى عام 1973، فالدولة وفق التقسيم المستقر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كانت استبدادية بالضرورة، وكان الاعتراف الدولي بالانقلابات العسكرية دليلا على أن التوازن الإقليمي أهم بكثير من حيوية الدولة الإقليمية وتطورها.
المشكلة الثانية ظهرت بعد ستة عقود من اتفاقية سان ريمون؛ عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران ما فرض واقعا استراتيجيا جديدا، ورغم محاولة تأخير التأثير الإيراني عبر الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، لكن النتيجة برزت مع نهاية الألفية الأولى، فأصبحت إيران بنفوذ إقليمي غير محسوب باتفاقيات التقسيم لبداية القرن العشرين، ويبدو تهديد “إسرائيل” إحدى النتائج المباشرة لهذا الأمر، فقوتها أصبحت في مهب الريح مقابل الشكل اللاتماثلي للصراع الممثل بحزب الله أو باقي القوة الفلسطينية التي أشعلت انتفاضتين متتاليتين.
هذا الواقع فرض ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد”، ولكي لا ندخل بصيغ كلاسيكية في فهمه فهو في شكله العام محاولة لإعادة توزيع القوة، وبالتالي فهو تقسيم يقتضي تغير طبيعة الدولة دون أن يعني اقتساما جغرافيا جديدا، ويبدو العراق الضحية الأولى لهذا التصور، فتبدلت الدولة ونفوذها على جغرافيتها، وكان لبنان أيضا ضمن هذا الإطار فظهر تشابك وصراع داخل مؤسساته منذ خروج الجيش السوري منه، وأخيرا فإن المحاولات المتكررة لتكسير الدور السوري سواء عبر حرب 2006، أو من خلال أزمة اغتيال رفيق الحريري (رئيس وزراء لبنن الأسبق) وأخيرا عبر الحرب الدائرة على الأرض السورية اليوم، فكلها في النهاية محاولات لإنشاء معادلة فيها دولة تقتسم النفوذ على الجغرافية مع المجموعات المحلية، ولكن إلى أي حد يمكن لهذا الحل الهروب من عملية الاقتسام الجغرافي للمنطقة.
أزمة متجددة
لم يقدم جوشوا لانديس أي جديد سوا الإقرار بفشل تبديل طبيعة الدولة دون تغير في الجغرافية والحدود لتلك الدولة، والمشكلة هنا أن نظرته كانت مقتصرة على توازن القوى داخل سورية، فهو يعرف تماما أن البحث عن توازن إقليمي ودولي أمر يبدو مستحيلا في ظل عدم وضوح النظام الدولي، ولا بد هنا، وفق مؤشرات الحل الذي قدمه، من تهيئة مناخ يتيح تبديلا متزامنا لطبيعة الدولة ولجغرافيتها في آن، وليس المهم واقعية الخارطة التي قدمها، أو حتى نوعية التقسيم المذهبي الذي اقترحه، فالمهم هو فتح باب التصورات، وهو ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، فعلى امتداد عام كامل منذ افتتاح مؤتمر الصلح في باريس ظهرت مشاريع سياسية مختلفة، إلى أن تم الاستقرار على التقسيم الأخير، وهنا علينا ملاحظة أمرين:
– إن التقسيم المقترح لم يحل معضلة “الدولة” القادمة لا في سورية ولا في العراق، فالقبول بدولة داعش إلى جانب الدول السورية مع اقتسام جغرافي يفترض على الأقل علاقات بينهما، لأن دولة داعش المقترحة، أو أي دولة سنية حسب اقتراح جوشوا، هي دولة مغلقة بريا حتى ولو منحت ميناء صغير على البحر في منطقة الشمال الغربي لسورية، فعلى المستوى الجيوستراتيجي فإن مقترج جوشوا سيخلق حزامين جديدين: الأول هو الحدود الحالية بين سوريا وتركيا، والثاني هو الحدود المفترضة بين “الدولة” الجديدة والدولة السورية، وبالتأكيد فإن هوية الدول القادمة غير محددة لتتوافق مع هذا التقسيم، وهو يعني أن التوتر والعنف هو الصورة الأولية لمثل هذه الدول، لأنها ستكون في حالة تناقض وجودي داخل جغرافية ضاغطة.
– لم يحل التقسيم المقترح مشكلة العلاقات الإقليمية القادمة، فنموذج دولة سنية يمكن أن يسير باتجاهين: الأول هو التماهي مع تركيا وبالتالي إشعال صراع جديد يحمل خطر عودة التنناقض ما بين الهضبتين (إيران وتركيا)، أما الاتجاه الثاني فهو الصراع على مركزية قرار هذه الدولة ما بين تركيا والسعودية، وبالتالي خطورة تقاسم الأردن أيضا ولبنان، وحتى مناطق من تخوم المملكة العربية السعودية.
لا يهم إن كان جوشوا مقتنع بما قدمه، لكنه مؤشر بالغ الخطورة لاتجاهات مراكز البحث، إضافة لحركة سياسية نشطة تتحدث عن تجميد القتال في بعض المناطق السورية، وهو يعني في النهاية أن المناخ الدولي يبدو مستعدا لفتح سقف الاحتمالات باتجاه المناطق التي كانت محظورة سابقا، وأن مسألة التقسيم هي تصورات تتدحرج اليوم على ميزان التشابك الدولي ونوعية النظام الدولي القادم.
Comments (0)
There are no comments for this post so far.
Post a comment