News and Opinion:
حيُّوا نضال السيجري

بقلم نضال الخضري

قلت له : أضحكتني هذا يجعلني أطمئن على أنك بخير

قال: اطمئني حتى لو كنت ميت أستطيع اضحاكك

لن يمر ذكره دون أن يرسم الضحكة على وجهونا ……حيُّوا معي نضال السيجري في ذكرى أربعينه

 للموت دهشة رغم أنه يحاصرنا اليوم في سورية، وهو القدر الذي نعرف أنه آت، لكنه يكتسي حلة لا علاقة لها سوى بجملة مشاهد انغرست في ذاكرتنا، وعندما يكون هذا الموت هو رحيل نضال السيجري فإننا سنقف على حدود عالم يصعب اكتشافه، لأن نضال لم يكن صورة واحدة أمام من يشاهده أو من تعرف عليه أو حتى من تتلمذ على يده في المسرح، إضافة لكلمات تناثرت على مساحة الأزمة السورية، وربما تعمد نضال “بعثرتها” على مساحة الوطن السوري، لأنها تعبر عن خلاصة التوحد ما بين الفن والإخلاص، وما بين القدرة على الإبداع والطاقة التي تستهلك الوجدان في لحظات ينتقل فيها الفن ليصبح أيقونة.

كيف نفهم نضال؟ سؤال لم يظهر لحظة غيابه، بل ربما كان بإمكانه رسم خط إبداعي مختلف بعد أن استهلك المرض صوته، فإذا كان إنهاك المرض قطع خطا ظهر على ساحة الدراما السورية في “ضيعة ضايغة” فإن عددا من الأدوار الصامتة كانت كفيلة بإقناعنا بأنه قادر على وضع التعبير الدرامي دون حاجة لأي كلمة، فهل اتقان التواصل البصري كان سيوصلنا إلى محطة أخرى من “الاتقان” الذي اعتدنا عليه؟

 

أسئلة لا تنتهي وربما سيبقى من الصعب أن نخلق صورة نهائية لنضال في لحظة غيابه، أو في أنواع الفراغ الذي شعرنا به فجأة وكأن ما حدث ليس موتا، بل ظاهرة أخذت بعدها الحدي في الأيام الأخيرة التي كانت تفصلنا عن الموعد الذي أصبح يحمل معنى لـ”فراغ” نملؤه اليوم بالأسئلة، لكننا ربما لانصل إلى نموذج محدد، أو إلى مصطلح يمكن قبوله لدى نقاد الدراما أو من يقف اليوم أمام الكاميرات وعلى خشبات المسارح كي يقدم لونا “يستثير” الخيال النائم داخلنا، ويدفعنا لحالة إبداعية طارئة تختصر الكون بإحساس فريد يشكل ولادة لنبض في حياتنا.

ومرة أخرى من الصعب فهم هذا التعبير الدرامي الذي يُظهر تبدلات الفنان عند نضال، فنحن أمام تشكيل ظاهرة ربما رحل نضال قبل أن تأخذ أبعادها الكاملة، لكننا يمكن أن نقرأها كنموذج لـ”استثارة الذات”، التي تلغي الحد الفاصل ما بين “القلق” الداخلي وتفاصيل التواصل مع مشاهد لا نعرف كيف ستصله الصورة، أو حتى كيف سيفهم هذا الصراع الداخلي، لكننا في حالة نضال السيجري فإننا سننسى أننا نملك عالمنا “غير الدرامي”، وندخل في لعبة “استثارة الذات” التي تنبش القلق داخلنا حتى عندما تصبح شخصية نضال هي صورة “أسعد” بكل ما يحمله من عفوية.

ونستعيد من جديدة الأسئلة التي تظهر عند التفكير للحظة بأننا فقدنا نضال السيجري، فهي أسئلة تغير الدراما من “صراع” نستمتع بتفاصيله باتجاه رسم واقعي نستعيد فيه الكثير من صورنا المنسية، لأن حضوره كان يحمل “الاستثارة” التي تبلغ الذروة فتبني لنا عوالم يصعب وصفها، فهل يمكن للمواقف الإنسانية التي قدمها بلون كوميدي أن لا تدفعنا لتصوير ذاتنا من خلال “حدث” أو خط درامي أقحمنا فجأة بالقلق الذي كان يحمله؟ إنها العوالم التي تركها لنا كي نشكل “الظاهرة” التي خاض تجربتها نضال، وجعلتنا نشكل ثقافة تولد من قناعتنا بملامسة شخصيات تداعب تفاصيل لا يمكن جمعها في إطار واحد.

وسأضع هنا جملة انطباعات عن “استثارة الذات” التي ربما تشكل إحدى الصور المغروسة لإبداع نضال السيجري، لأنه شكل أكثر من مجرد نجم في عالم الفن يمكن قراءته عبر تفسير أكاديمي، فتفوق السيناريو أحيانا او حتى الاعتماد على رواية أو نص مسرحي لا يمكن أن يخلق شكلا “مطلقا” ونهائيا، فنضال كان يبتكر ادواته في تحريض ذاتنا، فحلمه بالتأكيد لم يكن التعامل مع مشاهد ينتهي عند حدود كسر رتابة النهار بعمل درامي، فينجرف وراء “حدث مواز” وصراع مكشوف يرضي الرغبة في مشاهدة الصراع من خارج، فكانت أدواته الفنية متناسبة على الأقل زمنيا مع اعتياد المشاهد على انتشار محطات التلفزة، فكسر الرتابة هنا هي “كسر” لاعتياد المشاهد على الحيادية، وأداء نضال السيجري لم يكن سوى “استثارة” لكل ما هو استثنائي في مظاهر الحياة.

وسؤال آخر: هل هذه الاستثارة تنسجم مع عالم افتراضي تبلور سريعا وشكل “غرورا” و “استرخاء” امام سيل من الرسائل المختلفة عبر الدراما أو غيرها؟ بالتأكيد فإن هذا الموضوع يمكن أن يشكل بحثا لكن عند نضال السيجري لن نسجل سوى انطباعات لأننا أمام تشكل الظاهرة، وأمام عمل أساسي كان يمكن أن يسجل الكثير على امتداد الزمن لولا قسوة المرض، ولولا الحالة “الملحمية” التي ربطت رحيل نضال بأزمة مع الذات في سورية.

مفارقات “الاستثارة”

كيف نخلق مقاربة لذروة الإبداع مع شخصية محددة؟ سأستند لنموذج واحد في شرح ما تعنيه الاستثارة، ففي “ضيعة ضايعة” يمكن أن نسترجع نضال السيجري بشكل مختلف، فتلك البصمة في هذا العمل غرست صورة واضحة من الصعب المرور عليها كدور اعتيادي، أو كإبداع يمكن أن يتوقف مع مغادرة نضال لعالمنا، فهو قدم مقاربتين أساسيتين:

الأولى مغامرة تحويل النمط الكلاسيكي في رسم الشخصية الكوميدية إلى واقع مختلف، فـ”جودة وأسعد” من حيث النموذج لا يختلفان عن “لوريل وهاردي” في خمسينيات القرن الماضي، ولا حتى عن النموذج المحلي في “دريد ونهاد”، لكن الفارق هنا في قدرة نضال على تجاوز النماذج السابقة، وتجسيد الأداء أمام فارق التقنيات المستخدمة ما بين خمسينيات القرن الماضي واليوم.

ربما استطاع نضال بما يملكه من “حس” بالمشاهد نتيجة تعامله مع المسرح، من اختراق تلك المساحة الفاصلة بين طبيعة الدور الذي يقدمه وعمق الشعور المتبادل لتلك الشخصية مع المشاهد، فهل هناك من لم يختلط مع تلك الشخصية التي تضحكنا بقدر ما تجعلنا نلامس حالة إنسانية بداخلنا، وهذه “الحالة” هي التي جعلت نضال السيجري موسوما بدور “أسعد”، ومكتوبا في ذاكرتنا ليس بإتقانه للدور بل بمنحه روحا قادرة على النفاذ إلى عمق المشاهد.

الثاني هي مغامرة “البيئة” التي دخلها العمل ككل، لكن في النهاية فإن نضال قدم لنا بانوراما كاملة رغم محدودية المكان الذي تحرك به داخل العمل، فهل كان ينقلنا نحو اختبار التعامل مع نبض مختلف للحياة؟ وهل كانت تلك الشخصية هي “نضال” نفسه في رؤيته لتفاصيل تحيط بالحياة فنقبلها لأننا مرغمون على اعتياد واقعنا؟

أن هذا العمل الغارق في خصوصية البيئة، فتح كل النوافذ باتجاه إعادة “رسم” نضال السيجري في أعماقنا، لأنه شكل كل صراعاتنا على صفحة من التعبير الصامت لوجه قادر على تقبل الحياة فهمها وإحالتها لشكل “بسيط”، فيرسم خيالات على صفحة وجهه تبقى واضحة رغم الحالة الرثة التي يبدو فيها.

لا حاجة لتحليل عناصر ضيعة ضايعة، فمسألة الإبداع هنا بقدر ما تتعلق بتكامل هذه الدراما نصا وإخراجا وأداء، بقدر ما تفتح الباب واسعا على رؤية كل من شارك به، فتعود بنا الأسئلة إلى عالم مفتوح نحو نضال السيجري من جديد، وربما إلى محاولة كتابة تجربة سارت باتجاه قاس منحها شفافية، وأدخلها في رمزية امتزجت مع الحدث السوري منذ بدايته، فلم نعد نستطيع التمييز بين رحيل نضال والصورة الأخيرة التي تركتها “ضيعة ضايعة” في مخيلتنا، وإذا كانت تفاصيل نضال السيجري الشخصية يعرفها كل من تعامل معه من خلال التلفزيون والمسرح أو حتى في المعهد العالي للفنون، لكنها بالنسبة للجمهور تمحورت في مشهدين أساسيين:

الأول هي ما قدمه خلال الازمة السورية حتى رحيله، حيث يختلط الأمر علينا في الحزن أحيانا أو في القدرة على التمييز بين كلماته التي كانت تظهر وهو في مراحل الوجع الطويل، وبين المشاهد الغريبة التي بدات تحيط بنا، فكانت السطور التي كتبها لا تعبر عن حالة وجدانية فقط، بل عن وعي لوطن يتكسر ويتعب، كما جسد نضال، من وطئة الألم والتمزق.

الثاني هي نموذج الفنان المستمر.. الفنان الذي جعل المرض دائرة خارج الإبداع، فكون لنفسه انقلابا على طبيعة الأداء، وشكل شخصية فنية مختلفة كانت تبدو كتجربة فريدة لاستمرار الإبداع وربما تفوقه على المعاناة التي كان يعيشها نضال.

ونعود إلى الدهشة، فحتى في الرحيل كنا نبحث عن مفاجأة المسرح، وعن المشهد الأخير الذي ظهر فيه نضال ليخلق بداية مختلفة، فتلك الخشبة التي تخلق الحياة، أعادته لنا رغم رحيله في صورة فن يولد بشكل دائم، فيحاصره الموت لكنه ينطلق من جديد، فهو كان يسحب البسمة بلطف عبر استثارة “الغرابة” التي تسكن كل واحد منا، فهو جعلنا طوال حياته مقتنعين بأن اجتياح الزمن لعالمنا لا يحتاج سوى للمسة فن تبدو سهلة لكنها لا تخرج إلا ممن هو قادر على الدخول لأعماقنا، وكسر العزلة التي تعيش فيها تلك المشاعر الاستثنائية تجاه من نحب أو حتى من نكره.

هي أيضا الدهشة التي كان يصنعها عند طلابه؛ فيضع لهم الفن في المعادلة التي تجعل الفنان قادر على تلمس أدق تفاصيل ما يحيطه من علاقات، فلا فن دون حس فائق بـ”دفق” من يقف أمامك، ولا مسرح دون معايشة من يقفون على الخشبة للتفاصيل التي تجمعهم وتجعلهم خلاصة تجربة تستحق أن يخوضها الفنان

ربما نعايش رحيل نضال كصدى لعالم تكسر لأنه كان معنا عندما كنا نعيش الحدث السوري، فكسر السكون والصمت وربما الصدمة، وكتب لنا خصيصا… كتب لمن كان يراقب الأزمة ويعجز عن خلق أدوات لإيقافها، ونعايش رحيل نضال أيضا في رغبة التماس الدفينة مع عالم يتبدل، فهو محفور في ذاكرتنا بشخصية “أسعد” التي قدمت لنا “نظاما” للعلاقات بين الناس وكأنها “نوادر” تضع المشاهد أمام رؤية خاصة لملامسة قدرة كل فرد فينا على التعامل بعفوية مع محيط يبدو ساكنا لكنه مفعم بالصراع حول التفاصيل.

هو رحيل في النهاية مهما حاولنا أن نضعه في إطار خاص، وهو يكتب لنا أن “الفراغ” الذي يتركه نضال لا يخص عائلته او أصداقاءه، بل ينسحب على ثقافة اجتماعية، لأنه صانع ثقافة، وخالق “عوالم” لم نكن نحلم الدخول إليها لو لم يقدمها لنا بهذه الصور التي تركت لنا عشقا مميزا لفنان كان يحرض خيالنا… يحرض الحياة فينا.



Comments (0)


There are no comments for this post so far.

Post a comment