News and Opinion:
عامين… العنف والظهور الجديد

بقلم نضال الخضري

في لحظة واحدة تكدست التقارير، وكانت الصورة القاتمة لا تتحدث عن تمرد مسلح أو حرب أهلية بل أيضا عن تسرب المتطرفين، أو ما يعرف اصطلاحا بـ”القاعدة”، فهل أعادت تلك التقارير تشكيل الحرب في سورية من جديد؟ في المقابل فإن عاما ونيف مضى قبل ظهور تلك التقارير، وكان الشكل السائد هو الصراع على “الرواية” ما بين “مجزرة” قام بها النظام أو نفذها المسلحون، إلا أن “القتل” كان موجودا بغض النظر عن الطرف الذي مارسه، فهو “موت” مرسوم على ملامح “الاضطراب” الذي يسعى لإعادة الحياة السياسية، فسورية وربما منذ البداية عاشت هاجس “الصدام” مع ثقافة التكفير[1]، فلا يكفي الحديث عن الحرية والاستبداد، ولا يفيد البحث عن خيوط المؤامرة، لأن الجبهات رسمت في وقت سابق وعلى طرفيها توزعت الأزمات، فكانت سورية ربما البقعة الغريبة في مساحة التناقض الحاد داخل الشرق الأوسط.

وعندما نتحدث عن غرابة المشهد السوري فإننا لا نستعرض الحدث أو نحاول تحليله، بل نسعى لفهم العلاقات داخل ظاهرة العنف بذاتها، فهي تأتي إليها عبر مفاهيم الجهاد، وهي تتشكل على بقايا الشعارات التي ظهرت في بداية الأزمة، وهي في النهاية تكوين ربما لم يكن غريبا عن المنطقة لكن العنف في التاريخ السوري لم يأخذ منحا مشابها من عملية التدمير الذاتي ومحالة خلق بديل ثقافي لمجتمع كنا نعتقد أنه يخلق توازنا مختلفا وسط أزمات تحاصره شرقا وغربا.

ورغم أن “العنف” ظاهرة تشكلت داخل الأزمة السورية، لكنها حتى عندما تظهر بهويتها الدينية، تعبر عن محاولة تفكيك منظومة[2] تخص سورية أكثر من كونها “مدا دينيا”، وعندما نتحدث عن منظومة فإننا نحددها بثلاث مظاهر أساسية:

–  منظومة دولة بالمعني الحداثي، تحمل معها مؤسسات متكاملة بغض النظر عن طبيعة السلطة السياسية، وهي شكلت العلامة الفارقة منذ انهيار الدولة العثمانية وحتى الآن.

–  منظومة تعبر عن توازن إقليمي بقي قائما رغم التناقض الصارخ الذي خلفه وجود “إسرائيل”، فالمسألة ليست “مقاومة” و “ممانعة” بالمعنى العسكري، إنما الحفاظ على الثقافة الاجتماعية في مواجهة ثقافة بديلة جسدها “الوجود الإسرائيلي” منذ ستة عقود.

–  منظومة ارتباط حضاري لا يمكن من داخلها تمييز المفاهيم السياسية الكلاسيكية مثل “الشرق والغرب”، أو حتى تلك التي ترتبط بـ”التمايز” الديني.

ورغم أن مسألة “التعثر السياسي” بقيت موجودة منذ استقلال سورية وحتى اللحظة، لكن هذا التعثر لم يؤدي في أي مرحلة من التاريخ المعاصر إلى فقدان تلك “المنظومة” لآلياتها أو حتى قدرتها على التأثير في المجتمع السوري ومحيطه الجغرافي، وما حدث منذ عامين حمل معه “التحول” داخل هذه المنظومة وذلك بغض النظر عن طبيعة البدايات التي جعلت ما يجري في سوريا استكمالا لـ”الربيع العربي”[3]، لأن الرؤية الكاملة للحدث جغرافيا وتاريخيا تقدم على الأقل مؤشرات إلى أن هذا “الربيع” كان يحدث مستقلا عن “الجغرافية الأخرى” في منطقة الخليج العربي التي رافقت “دول الحداثة” منذ ظهورها لكنها بقيت نموذجا مختلفا عنها.

إن الأمر الأساسي الذي ميز عملية التفكيك هو في جعل العنف كظاهرة داخل “بنية جهادية”،  ورغم أن هذه البنية تشكلت منذ “الحرب الأفغانية” وأنتجت “الأفغان العرب”[4]، إلا أنها اليوم تتبلور وفق خطوط جديدة داخل سورية، فأفغانستان لم تشكل “منظومة” أو “جغرافية ترابط”، أما في سورية فهناك افتراق حقيقي تخلقه أي “حركة جهادية” لأنها تسعى لإعادة إنتاج الثقافة الاجتماعية في سورية، هدفها النهائي أيجاد “جبهة عنف” تعيد صياغة المنظومة القائمة، وتعيد أيضا رسم المفاهيم التي تمت عليها بناء الدولة السورية بمفهومها المعاصر.

البدايات غير المألوفة

بعد عامين لن يستقيم الأمر بالحديث عن الاستشراف الذي أطلقه البعض كصرخة خلاص، فنحن أمام واقع مختلف تماما، وعندما نعود الى بدايات الأزمة نتذكر كيف امتلأت شوارع دمشق بإعلانات طرقية عن الفتنة[5]، ونبهت بأن سورية هي “الجامع” لكل من يعيش عليها، فإننا في نفس الوقت ندرك أن “قضية الجهاد” المفتوحة اليوم على مصراعيها في سورية تملك غاية واحدة هي إعادة إنتاج العنف، لينتج “منظومة سياسية” مختلفة تماما عما ساد سورية والمنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

في زمن “الحرب القذرة” يصعب إيجاد منفذ للعقل، فالحرية كانت عنوانا واحدا والمؤامرة أيضا هي حملة موجهة نحو مظهر الاضطراب، ولكننا في النهاية كنا أمام حالة من البحث عن المواقع والتحصينات، وخلق التصنيفات التي استدعت من جديد ثقافة “الصدام”، ووضعت في الواجهة استحقاق “الرضوخ الثقافي” أو “الاستكانة” للمزيج الفكري المركب من بقايا “المماليك” وملامح مستقبل “افتراضي” موجود فقط على صفحات الانترنيت.

ما هو هذا المركب السوري الذي أنتج كل تلك المساحات من الألم؟ وما هي نوعية الحرب التي قرر البعض، في سورية وخارجها، خوضها ولماذا؟ المواجهة التي تحدث اليوم ليست على مستوى “وعينا” لذاتنا، فهي أبعد ما تكون عن التفكير، وهي أيضا تحدث في المكان المظلم من السياسة وعلم الاجتماع والنفس وحتى من علوم الفيزياء، فالتفكير يبدو أنه عدو اللحظة الراهنة، لكن العنف يحتاج لتفكيك ولوضع “الفكرة” الأولى التي تواجه هذه الظاهرة التي تبدو في سياق الأزمة السورية وكأنها “منظمة”، فهي تترك انطباعا أنها تتطور بأفق منتظم، رغم أن مفرداتها عشوائية لأبعد الحدود، فـــ”العنف” في سورية ليس هاجسا يوميا فقط بل أيضا صورة للبديل الذي تم طرحه أكثر من مرة عند الحديث عن “المستقبل السياسي” لسورية فيما لو تم التلاعب بتوازناتها،  فهل تم التلاعب بالتوازن السوري حقا؟

سؤال بقي مخيما منذ بداية الأزمة قبل عامين، حيث صور الانقسام كخروج عن قاعدة ما سمي “الثورات العربية”، لكن هذا الانقسام لم يكن بداية “العنف”، بل إن العنف تم تركيبه داخل هذا الانقسام، وهنا لا نستطيع وضع نقطة حاسمة للبداية التي يمكن أن تكون انطلاقا لظاهرة “الدم” كحالة مرافقة للأزمة، فهناك دور تبادلي ما بين تطور الحدث ودخول العنف كـ”ظاهرة إعلامية” في البداية، لأن الإعلام كان الأداة الأساسية لحركة الاحتجاج التي سربت عددا ضخما من اللقطات العنيفة المصورة بشكل بعيد عن الاحتراف وبشكل يدعو للتساؤل ألم يكن يكفي نوعا آخر من التعبئة مع استخدام أشرطة أقل عنفا؟!

إن المسألة المطروحة حول عامين من الاضطراب في سوريا ليست في أن العنف تمت ممارسته على المحتجين، ولكن في ارتكاس الكثير من الأطراف إلى الاعتماد على هذه الظاهرة لتكوين رأي عام، ولجعل “النظام السياسي” فاقدا لشرعيته، وحتى اللحظة مازالت هذه الآلية معتمدة على الأقل على المستوى الرسمي داخل بعض المنظمات الدولية، ولكن العنف كان يتشكل كظاهرة وفق أربع مسارات:

الأول – إعطاء الشرعية المطلقة لحركة الاحتجاج، ويبدأ الموضوع منذ لحظات الحدث الأولى حيث كان لـ”الناشطين السياسيين” الدور الأبرز في هذه الظاهرة فهم انتقلوا سريعا باتجاه ما يجري رغم أن معظمهم لم يشارك في دفع الأمور باتجاه الاحتجاجات، معتبرين أن “حركة الشارع” ستقرر مسار الحدث، وربما تجاوز معظم المثقفين مسألة التأثير المباشر بما يجري على الأرض بل ربما على العكس ظهرت الرؤية وكأنها نقطة فاصلة لحسم كافة المعارك المعلقة ما بين المثقف والسلطة.

من الصعب فهم كيف توقف المثقفون عن استخدام العمق الفكري الذي يدَعون حمله، ومن المستحيل أيضا تقديم تفسيرات واضحة للحالة التي ظهرت عليها سورية بعد أسبوعين فقط من بدء الاحتجاجات، فالشهر الأول عمليا حمل الكثير من الإرباك حتى للسلطة السياسية التي بدت متفاجئة من نوعية الحدث وتطوره على الساحة الافتراضية على الأقل، لكن المثقفين الذين شاهدوا ظهور “التنسيقيات” بشكل سريع لم يتعاملوا مع ما جرى كظاهرة ممتدة تتشكل داخلها “بيئة العنف”، إنما اعتبروا أن “شروط الثورة” توفرت، أو في أحسن الأحوال فإن “الربيع” طرق الجغرافية السورية، لكن الواقع هو أن “البجعة السوداء” مرت على سورية.

الثاني – مسار “الإعلام الذاتي” كنموذج للتعبير عن الذات، وهو ما يمكن تسميته بـ”شاهد العيان” الذي تحول لصحفي متنقل قادر على تأجيج الوضع ببضع كلمات، وبالتأكيد فإن تجربة قناة “الجزيرة توك” كانت قاعدة متوفرة ومجربة من قبل، والمادة الإعلامية هنا لا تستند الى تصوير العنف من جهة وتوثيق نقاط التظاهر، إلا أن مظاهر الدم هي التي لعبت الدور الأكبر في مسار “الإعلام الذاتي” لأنه مصدر التحريض على التظاهر، ولسنا هنا بصدد التعامل مع مصداقية تلك المشاهد لأن المهم هو تكوين استقطاب يعتمد على “الثأر” وليس على أي حالة سياسية، فما كان ظاهرا هو “براءة” الشعار السياسي أي (الحرية) في مقابل التوحش الذي تظهره “أشرطة العنف”.

مسار “الإعلام الذاتي” كون ظاهرة العنف “افتراضيا” قبل أن تتشكل البيئة الحاضنة للإرهاب، فهو كان غاية بذاتها لأن كسر الواقع السوري بدا غير ممكنا بالشكل التقليدي أي بخلق إرادة جامعة لـ”إسقاط النظام”، وأما مسألة السلمية فهي لم تكن شرطا مطلقا فالتظاهرات كانت تستهدف النقاط الأمنية أساسا وهو ما يرفع احتمال ظهور العنف.

الثالث – في المسار الثالث هناك العاملين الإقليمي والدولي، وهما عاملان بلورا ظاهرة العنف من خلال الاستناد إلى التجربة الليبية بالدرجة الأولى، فالنموذج الدولي في “التدخل الإنساني” كان حاضرا من يوغوسلافيا إلى ليبيا، وبغض النظر عن واقعية استخدام هذا السيناريو في سورية لكن التلويح به أعطى قاعدة لممارسة العنف من أجل استيفاء شروط مثل هذا التدخل.

عمليا فإن السلطة السياسية في سورية أدركت منذ البداية أن “مظاهر الدم” هي العدو الأساسي وليست حركات الاحتجاج، لكنها لم تستطع التعامل مع نوع من “الحروب الحديثة” التي ظهرت في أرضها وهددت بشكل سريع سيادة الدولة وشرعية السلطة، فهي اعتمدت على “تكنيك” الطرف الثالث وهو غير المحتجين و السلطة يسعى لتصعيد النزاع ( المندسين )مهما اختلفت تسمياته، ولم تنظر أيضا إلى أن ما يجري على أنه تحول نهائي عليها اتخاذ قرار “ابداعي” تجاهه، وعندما كانت بعض كتاب الجيش السوري تتعرض للهجوم في بداية الأحداث كانت السلطة السياسية تقوم بعمليات التعبئة من خلال “الرموز الوطنية” مثل العلم الوطني؛ ما أدى لاحقا إلى استبدال العلم من قبل “المعارضة” الممثلة بهيئات خارج سورية، ولم يطل الوقت حتى استحدث “جيش بديل” ولو بشكل افتراضي.

رابعا – المسار الأخير كان في عمليات التكسير التي حدثت لأسس الحياة السورية، فمع تحطيم كافة الرموز الوطنية أصبحت ظاهرة العنف مكتملة، فالولاء للوطن لم يعد ممكنا وفق المسار السياسي المعتاد إنما تم إيجاد بدائل جاهزة لكنها لا تملك سياقا متصلا مع تاريخ سورية المعاصر، فالحديث عن “الثورة” هو في النهاية إلغاء لكل المظاهر السابقة بما فيها “مؤسسات الدولة”، وهو تبرير لاستخدام “العنف الثوري” أو في صيغته التراثية “العنف الجهادي”.

ويلخص هذا المسار مجمل “المسألة السورية” في لحظتها الحاضرة، لأنه يصل بعملية “التفكيك” إلى سياقها الخاص، فظاهرة العنف هنا حملت “الهوية الجهادية”، وقدمت مؤشرات على أن ما يحدث هو صناعة “جبهة للعنف” داخل السورية.

الجهاد و “جبهة العنف”

لا تعني جبهة العنف تحالفا لمجموعة قوى، لأنها تعبير عن جملة علاقات تظهر داخل الجغرافيا السورية، وإذا كانت “العباءة الدينية” تظهر بوضوح على مجموع هذه العلاقات، لكن دور الدين يحتاج لقراءة تنفذ إلى عمق ما يحدث، حيث لا يشكل الدين بذاته ظاهرة عنيفة بل على العكس فهو يقدم نفسه على أساس من “السلم والسلام والمحبة”، فكيف يمكن تفسير التحول الذي يحدث ليتحول إلى “حالة عنيفة”؟ وهذا السؤال لا ينطلق اليوم من تاريخ تطور الفكر الديني، لأنه في الحالة السورية يشكل بنية مستجدة، ووجود الجهاديين لا يعني أن ظاهرة العنف مبنية على تواجدهم، فهم في النهاية جزء من العلاقات القائمة داخل “جبهة العنف”، فالبنية الأساسية لهذه الجبهة انطلقت أساسا من “الحلول المفترضة” لمواجهة “الحالة القومية” وذلك عبر صراع طويل امتد منذ الخمسينيات وحتى أوائل الثمانينات، عندما بدأت التشكيلات الدينية تحل مكان “الحركات اليسارية” أو القومية.

منذ عام 1980 طرح زبيغنيو بريجنسكي[6]، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في عهد الرئيس جيمي كارتر، رؤيته لدور أمريكي يقوم بإشعال المزيد من الحروب لرسم خريطة الشرق الاوسط بصورة تغاير ما قررته اتفاقية سايكس – بيكو، فهل كانت المشكلة في تلك الاتفاقية؟ الرأي العام في معظم الدول التي أوجدتها اتفاقية سايكس – بيكو يتجه نحو اعتبارها كارثية، لكنها من منطق آخر بُنيت وفق قراءة للجغرافية – السياسية بحيث أوجدت وحدات سياسية في مناطق الكتل التاريخية في شرقي المتوسط، وأعطى هذا الأمر تناقضين أساسيين:

الأول – مع القوس الجغرافي الجنوبي لهذه الاتفاقية، فدول الجزيرة العربية شكلت “وحدات نفوذ”، في مقابل “وحدات سياسية” في الشمال تصادمت فيما بينها ووفق آليات مختلفة.

الثاني – تناقضا مع وجود “إسرائيل” التي كانت في سايكس بيكو مشروعا وغدت واقعا قائما اليوم، بالتأكيد فإن سايكس – بيكو كانت تلحظ ظهور “إسرائيل” لكنها في المقابل افترضت توازنا في القوة لم تعد متوفرة اليوم، فـ”إسرائيل” في موازين القوة المعاصرة تحتاج في بقائها إلى أكثر من مسألة التوازن العسكري التقليدي، وحتى إلى دور سياسي يتجاوز مسائل “الصلح” أو الاتفاقيات التي تم ابرامها معها من قبل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.

على إيقاع هذين التناقضين تبدو “جبهة العنف” أساسية في كسر المعادلة التي أنتجتها “سايكس – بيكو”، ومع الأخذ بعين الاعتبار التحولات في دول الخليج وإيران فإن دول الشرق الأوسط أصبحت مشكلة بذاتها وإعادة رسمها أو “تحديد سيادتها” كان الشغل الرئيس لمختلف الإدارات الأمريكية خلال العقود الثلاث الأخيرة، وإذا كانت العراق كدولة تم تفكيكها تدريجيا عبر الحروب الخارجية، فإن سورية ونظرا لـ”متخامتها” لـ”إسرائيل” وتأثيراتها على مجموع الأزمات في الشرق الأوسط، فإن “الحروب الحديثة” هي الأكثر انسجاما مع واقعها، على الأخص أن تجربة لبنان على سبيل المثال أثبتت عدم جدوى اقتحام المنطقة من “الخاصرة الرخوة” ، وأن طرق “المساحة القوية” في سورية يشكل حلا لإعادة رسم الشرق الأوسط بأكمله.

وتبدأ “جبهة العنف” من تجاوز المألوف، فاستخدام العامل الديني لا يعتبر كافيا لخلق فتاوى جهادية في سوريا، فهي لديها “سياقها” في الافتاء، وهي أيضا متآلفة مع واقعها الاجتماعي وحتى السياسي، فالإسلام كما يظهر في سورية يملك تصورا في فهمه للواقع الذي يشكل مجموعة من “الاعتبارات” و “المصالح” وحتى الضرورات، وهو أيضا تعامل مع الفكر الديني بوقت مبكر، فرغم أنه لم يقدم حالة تنويرية مشابهة لما ظهر في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين[7]، إلا أن معظم المرجعيات الدينية كانت تدرك حساسية التعامل مع مجتمع متحرك ومختلط ومتنوع، لذلك فمن الصعب الاعتماد فقط على “فتاوى الجهاد أو التكفير”، ومن الصعب أيضا خرق الحلقة المتمثلة في “علماء الشام”[8] الذي يمتلكون نوعا من الامتداد التاريخي داخل المجتمع ويمثلون نقاط التوازن وليس التطرف.

من الملاحظات الأولية لطريقة استخدام العنف بدت في كسر الاعتماد على مركزية المدن في مسألة الدين، فاحتل الشيخ أحمد الصياصنة[9] على سبيل المثال موقعا أساسيا في بداية الأزمة السورية، وهو مقارنة مع شيخ آخر هو سارية الرفاعي[10] من دمشق، فإنه شكل رمزا رغم أن الأخير يمكن اعتباره ضمن تيار أسسه والده “عبد الكريم الرفاعي”، وهو مع نشاطه وميله للمحتجين لكنه حافظ على اتجاه مختلف، وأما المثال الآخر فهو الشيخ راتب النابلسي[11] الذي امتنع في كثير من الأحيان عن الإدلاء برأي يضعه بشكل صريح ضمن الأطراف المتصارعة.

وما حدث لم يكن يعبر عن صراع داخل التيار الديني بسورية، بل وضع سوية موازية لمشايخ أو علماء يخلقون سياقا مختلفا في سورية ويتيح للمجتمع حالة من الاستقطاب، فهذه الآلية أدت في النهاية لعمليات فرز واضح على مستوى رجال الدين، وجعلت من فتاوى الجهاد قابلة للنفاذ، وبالتالي التأسيس لواقع موازي يمكن أن يخترق حلقة ما يسميه البعض “الخصوصية” السورية، أو شبكة علماء الشام، وبالمقارنة مع أي صدام سابق ما بين التيارات الإسلامية والسلطة السياسية يمكننا ملاحظة الأمور التالية:

–  رغم حدة الصراع مع حركة الأخوان المسلمين سواء في منتصف الستينيات أو حتى في نهاية السبعينيات، إلا أنها لم تتخذ طابعا مطلقا كما يحدث اليوم، فالحركة الحالية ليست كتائب مسلحة فقط بل سلسلة متكاملة تبدأ من “الواعظ” وتنتهي بالمقاتل وتتخللها المحاكم الشرعية، وهو ما لم تقم أي حركة إسلام سياسي في سورية القيام به على نفس هذه الشاكلة.

–  فيما كانت حركات الإسلام السياسي في سورية تصارع من أجل الوصول إلى السلطة، لكنها لم تفرض نفسها كمرجعية خارج نطاق الصراع، بينما تشكل الحركات الحالية مرجعية عامة تفرض قانونها على أصغر بقعة تسيطر عليها، وهي في نفس الوقت تعلن بكل وضوح عن رفضها للآخر.

–  هناك تصميم من التشكيلات الإسلامية الحالية لوضع التناقض مع الآخرين في أقصى حالة ممكنة، وهي تدرك أن التدمير الممنهج هو السبيل الوحيد لفرض قانونها بـ”إدارة التوحش” حسب تعبير أبو بكر ناجي الذي وضع كتابا بنفس الأسم شرح فيه الإطار النظري للتنظيمات السلفية.

وعندما تكتمل “جبهة العنف” يصبح بالإمكان اعتبار سورية بأكملها جغرافية هشة، وبالتالي تصبح أيضا “مولدة للإرهاب” وليس منطقة تستقطب الإرهابيين، ففي المرحلة التي تعيشها سورية تصبح المواضيع السياسية “هامشا” فقط بينما العنف يكون بشكل تلقائي المسارات الجديدة لسورية.

في كل تفكيك لظاهرة العنف يتضح أن مسألة العمل على إيقافه تتطلب حالة “إبهار” جديدة، فهو رافق انطلاقة “االدهشة” عبر التمرد والانضواء تحت شعار الحرية، وكل المسارات السياسية اعترفت بـ”شرعية الحراك” حتى ولو اختلفت مع نتائجه الحالية، ولكن أي محاولة اليوم لكبح جماح الموت لا يتم من خلال التركيز على مسائل التطرف وانتشار التنظيمات الإرهابية، لأنها شكلت “جبهتها” وآلياتها الذاتية، وربما المطلوب الانطلاق لترتيب الأمور لسورية وفق إيقاع مختلف، فالحسم العسكري والسياسي ربما لم يأخذ بعين الاعتبار أن الإرادة التي انطلق منها الحدث باتت مختلفة وبشكل نوعي، فعامل البحث عن عناوين عامة تحولت باتجاه عمليات “تصنيع” بيئة الإرهاب و “صياغة الأزمة” على مسار يريد إيجاد “بديل” لسورية التي تحولت بالفعل لكن “البديل” مايزال مجال صراع عنيف وربما يكمن الخطأ في أن الكثيرين يسعون لإرجاع عقارب الساعة باتجاه عام 2011، فيطمح بأن يكون التحول دون ثمن واضح في أشكال الحياة الاجتماعية.



[1] – تعود ثقافة التكفير إلى زمن الخوارج في صدر الإسلام، حيث يتم تكفير كل من إرتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها وكذلك يكفرون الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله بإطلاق ودون تفصيل ويكفرون المحكومين لأنهم رضوا بذلك وتابعوهم أيضاً بإطلاق ودون تفصيل أما العلماء فيكفرونهم لأنهم لم يكفروا هؤلاء ولا أولئك كما يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله أو قبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم.

[2] –  يتم تعريف المنظومة بأنها العلاقات المخططة بين الأجزاء أو المكونات أو العناصر، ومن أهم مدلولات ومعاني هذه الكلمة هو الهدف الذي تتواجد من أجله هذه العلاقات أو الهدف الذي يتحقق من وجوده المنظومة نفسها أو تعمل المنظومة لتحقيقه والوصول إليه.

[3] – يمكن العودة إلى كتاب “الخليج والربيع العربي.. الدين والسياسة”  الذي يدرس أثر “الربيع” على الإسلاميين في الخليج، وخصوصاً في البحرين والإمارات، وكيف تعاطى السلفيون -في السعودية وغيرها- مع التحولات، كما تضمن الكتاب أسئلة حول المشروع القطري بتبني الوهابية، ودراسة عن كيفية تعامل الجار الإيراني مع الاحتجاجات العربية واستثماره لها، ويدرس كتابنا التماسك الاجتماعي الخليجي ومتطلباته، ومسألة الطائفية، ويعرض مظاهر المفكرين الحركيين الجدد في الخليج. الكتاب من إصدار مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي،

[4] – مصطلح يتم استخدامه عند الحديث عن الجهاديين الذين عادوا من أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفياتية منها، لكن ظاهرة الأفغان العرب هي أكثر تعقيدا من التعريفات السريعة، وهي شكلت منذ تواجدهم في أفغانستان تيارا خاض صراعات حتى في أفغانستان، ولمزيد حول الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب “ولادة الأفغان العرب” لـ”عبد الله أنس” وإصدار دار الساقي، وهو يلخص تجربة الكاتب الجزائري الأصل خلال الحرب الأفغانية.

[5] – اختلفت التعريفات بشأن ما حدث في السورية في البداية فمن ثورة إلى اضطراب إلى “محنة”، وخلال الأشهر الأولى ظهرت حملة إعلانية غطت شوارع دمشق تعتبر ما يحدث “فتنة” غرضها تمزيق وحدة الشعب السوري.

[6] – ولد زبيغنيو ك. بريجنسكي Zbigniew K. Brzezinski في 28 آذار 1928 في وارسو كابن لرجل دبلوماسي. وفي الخمسينيات بدأ عمله كواحد من الخبراء الأوائل في سياسة الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1960 كان مستشارًا لدى جون كندي في شؤون المعسكر الشرقي أثناء حملته الانتخابية الرئاسية التي توِّجت بالنجاح. وعيَّنه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عند توليه الرئاسة في عام 1977 رئيسًا لمجلس الأمن القومي. ومع دخول السوفييت إلى أفغانستان ومع ظهور اتّجاهات معارضة في بولندا وتنامي حدّة السياسة النووية التي اتّبعتها القوى العظمى – ازدادت بوضوح أهمية سياسة بريجنسكي المتصلبة تجاه المعسكر الشرقي في عام 1979 داخل الإدارة الأمريكية. وحاليًا يعمل باحثًا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS في واشنطن ومستشارًا لدى المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية، باراك أوباما.

[7] – لعب “الأزهر” دورا بارزا في عمليات التنوير، ويتم التأريخ لعمليات “النهضة العربية” من خلال “مشايخ” وأعلام مثل الشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد، حيث وضعوا في تلك الفترة مجموعة من الكتب التي شكل تحولا في التفكير مثل كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق.

[8] – للاطلاع على التكوين الاجتماعي لعلماء الشام يمكن العودة إلى مجموعة من الكتب التي تتحدث عن سيرتهم ونشأتهم ليتضح أن غالبيتهم من منشئ “مديني”، مثل كتاب “علماء الشام كما عرفتهم” لـ” محمد سعيد بن عبد الرحمن الحسني” وإصدار دار القادري في دمشق.

[9] – ولد الشيخ أحمد عيد الصياصنة ، في مدينة درعا البلد في 10 – 4 – 1945 في أسرة فقيرة وبسيطة ,أصيب بالأشهر الأولى من ولادته بالرمد ، مما أدى لفقدانه البصر، دخل الكتّاب في العام 1950. وفي عام 1965حصل على الشهادة الإعدادية دراسة حر ة عام 1967 حصل على بعثة على نفقة الجامعة العربية في كيفية تعليم المكفوفين وتأهيلهم في جمهورية مصر , قدم خلالها عام 1968 رسالة ( الحياة الجماعية وإثرها في تكيف الكفيف ) , وبناءاً عليها حصل على شهادة اختصاص في تعليم المكفوفين وعاد إلى سوريا . عام 1969 حصل على الشهادة الثانوية الفرع الأدبي دراسة حرة .عام 1970 تم قبوله في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والتحق بها بنفس العام .أتم خلال دراسته الجامعية. عام 1973 حصل على شهادة الليسانس من كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بتقدير جيد جداً.

[10] – هو أحد أبناء الشيخ عبد الكريم الرفاعي التي شكل طلابة حركة دينية واسعة منذ السبعينيات أنطلاقا من جامع زيد بن ثابت الأنصاري في منطقة الفحامة بدمشق.

[11] – محمد راتب النابلسي شخصية إسلامية مشهورة، وأحد علماء الدين المعاصرين، ورئيس هيئة الإعجاز القرآني، وله العديد من المؤلفات وشارك في العديد من المؤتمرات العالمية. يقوم كذلك بإعطاء دروس دينية في مساجد سوريا. من مواليد سنة 1938م،



Comments (4)


Asmar Habbal said:

ابدأ من العبارة التالية (كسر الواقع السوري بدا غير ممكنا بالشكل التقليدي أي بخلق إرادة جامعة لـ”إسقاط النظام”) وأتسائل عن سبب استحالة خلق هذه الإرادة وهل الإستحالة هي في خلق هذه الإرادة أم في السماح بتجسيدها على الأرض؟ فضخامة الجمهور المعارض (كماً ونوعاً) والذي تجلى في مناسبات عديدة أولها اعتصام حمص الشهير 18 نيسان 2011 (أكثر من 40000 مواطن من كل الإتجاهات السياسية) وبعده مظاهرات حماه المليونية ثم دير الزور. والأنشطة التي جرت لسنوات سابقة (إعلان دمشق مثلاً) كانت كلها إرادات جامعة وإن بتفاوت ومارست الأشكال التقليدية للإعتراض والسؤال الآن هو لماذا أدار النظام السوري ظهره لكل محاولات الإصلاح التي عبرت عن نفسها بأرقى اشكال العمل السياسي والثقافي والإجتماعي؟ بل قابلها بالإعتقالات والتنكيل برموزها و …… أليس رد النظام هذا رسالة للجميع بأن التغيير في سوريا لن يتم إلا بالقوة.

March 28th, 2013, 3:39 am

 

Hazem Abd Alhak said:

تحليل عميق و تفكيك لما جرى حتى الآن، في الصراع المستمر في سوريا، و لكن ما يقلقنا جميعاً لآن هو الى أين يأخذنا و متى سينتهي هذا الصراع الذي أصبح السوريون وقوداً له.
كل ما حدث سابقاً في سوريا من انقلابات عسكرية و ثورات لا تقارن بما يحدث الان.
عرفنا و من عدة وجهات نظر اسباب ما يحدث و نبحث و ننتظر سيناريوهات واقعية للحل في سوريا نكون نحن السوريون مسؤولون أولاً عن تفعيلها.
الحرب الأهلية في لبنان استمرت 15 سنة، أرجو أن لا تطول الحرب عندنا لأكثر ما وصلت اليه.

April 1st, 2013, 4:08 pm

 

عامين… العنف والظهور الجديد | kharej_alserb said:

[…] بقلم: نضال الخضري – The Syria Page […]

May 25th, 2013, 12:29 pm

 

adonis paganini said:

Nidal the great :

No doubt that the article has given an atypical approached to the issue of violence the country and its new replications . the accurate observations you mentioned as regards the origin this new type of violence were really amazing, particularly when you were talking about its emergence in the very early stages of that crisis . the violence front . as you preferred to name it , is a new term to me , it is very creative and telling however . your description of the unfamiliar starts of violence conceives brilliant , logical , sophisticated different understanding of what is going on . not to mention the very essential and delicate key question , what sort of Syrian complex which brought about all this pain ? I must also admit that the overwhelming literary style of writing is attentively observed thought out the article .
Having said that , I would like to stress that I am not in a position to criticize your article , nor i posses the your analytic capabilities in such complicated issues .
Having read the article several times , I must say it was difficult to go through , it could be my problem , but I believe in simplicity . for ,me discovering the underlying simplicity of a process if far more likely to be useful than imaginative and complex description of phenomena .
The , of course , does not devaluate your view of being very accurate .
I would imagine that you probably wrote your article to elite educated people , who are deprived of the ability to use their deep thinking skills ( as you accurately labeled them )
I am very aware that writing about a real events happening on daily bases using abstract ideas ( ie contemporary of modern stat , the regional balance , system of civilization links ) is probably the only way to convey the message someone wants to deliver . however , that would make the idea vulnerable to various interpretations . yes that might enrich the idea but it could make the solution difficult to attain .
I am fully agree with the remedy you suggested in the last paragraph ; to rearrange things in a new way to find the alternative to the current or previous Syria . but still I believe that violence ideology has to be countered in a way or another .
In the end , I understand the politics , economy , sociology are several ways to comprehend what is going on in my beloved Syria . but I must admit I have never studied any of them , and have no groove in my mind , for any of these specialties to stream all what is going on . what I am sure about is I have a groove for physical thinking ( does not mean material only ) . this groove seems to be enough to conceive most of the bloodshed we are experiencing . very simply , we are living in a society or probably communities ( I find the last could be more repetitive ) the term does not really matter lot . anyway , this community is subjected to several kinds of forces ( economic , , social , ethnic , political , military , —and so on )
Some of these powers are quite detectable and others are not even to most expert . what is needed is to work on the detectable ones ; enforce some and weaken others to reach a certain degree of stability . the most important thing is not only the magnitude of the physical power of the farces mentioned matters , our perception of the power is also very critical.
Since the perception is the work of mind , working in this direction would be able to shift the balance very significantly .
I appreciate your patience to read my long comment .

July 27th, 2013, 4:43 pm

 

Post a comment