المحور الاقتصادي: الأستاذ عمر عبد العزيز الحلاج يكتب عن تحقيق التوازن بين الريف والمدينة

الأزمة السورية… الملفات العالقة

عبر مشروع الحوار السوري ظهرت نقاط العبور نحو سورية ما بعد الأزمة، لكن هذه النقاط بذاتها مسألة معقدة نظرا لتعدد وجهات النظر، وهي تحتاج لرؤية أعمق باتجاه الحلول المقترحة إضافة لخلق مساحة توافق بين الاتجاهات المختلفة، ومن هذه الزاويا بالذات فإن مشروع  الحوار السوري اختار مجموعة نقاط أساسية ليفتح حوارا جديدا حولها، وذلك وفق سلسلة من الحوارات و المقالات مع ذوي الخبرة خلال السنوات الأخيرة عبر مواقعهم ورؤيتهم الخاصة  و المختلفة.

و ضمن سلسلة مقابلات و دراسات المحور الاقتصادي لدينا دراسة الاستاذ عمر عبد العزيز الحلاج عن تحقيق التوازن بين الريف و المدينة  بوصفه  عمل سابقاً  مديراً تنفيذياً للأمانة السورية للتنمية في مجالات التنمية الريفية والشباب والثقافة

تحقيق التوازن بين الريف والمدينة

تحولت سورية  منذ قرابة خمسة عشر عاماً لتصبح دولة ذات أغلبية حضرية، حيث فاقت نسبة سكان الحضر مؤشر نصف السكان. ولكن هذا المؤشر يبقى ضبابياً بعض الشيء. فأغلب المدن السورية الصغرى هي تجمعات تتبع في حياتها الإقتصاد الريفي وتنتمي إجتماعياً وثقافياً إلى القرى المحيطة بها والتي نزح منها أهلها إلى هذه البلدات. وكذلك يتعقد المشهد إذا اعتبرنا أن أغلب سكان المدن الكبرى هم من النازحين من الريف والذين بقوا مرتبطين به اجتماعياً بل وحتى اقتصادياً. ورغم أن تعداد سكان الريف والمعتمدين على الإقتصاد الريفي مازال يقارب نصف السوريين إلا أن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الوطني تراجعت إلى ما دون ربع الناتج. ومع تراجع دور الزراعة  في الإقتصاد كان من الطبيعي أن تنسحب منه أعداداً كبيرة من القوة العاملة الريفية. وتراجع أيضاً إهتمام الحكومة بالريف الذي طالما كان أحد العلامات الفارقة في سياسة حزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم. ولم تستطع الحكومة رغم كل الإستثمارات التي خصصت للريف (والتي كانت في وقت من الأوقات تضاهي الإستثمارات الحكومية الموجهة للمدن) من النهوض به وتوفير البنى التحتية  اللازمة لتحقيق أي مقاربة  مع مستويات التنمية في الحضر.

 تكمن المشكلة في الأساس في السياسات المتراكمة التي اتبعتها الدولة على مر عشرات من السنوات الماضية والتي كانت تهدف للنهوض بالريف ولكنها سياسات انعكست مع مر الزمن إلى حالة نابذة للتنمية. من هذه السياسات ملكية الأراضي الريفية، ومنها المركزية المفرطة في العمل الإداري وإدارة الريف عن طريق إدارات تابعة للمحافظين المعينين مركزياً ولقوى الأمن الداخلي بدلاً من الإدارات المنتخبة محلياً، ومنها الدعم في الإتجاه غير الصحيح للقطاع الزراعي، ومنها الري غير المستدام (والتي نخطئ في تحويل اللوم فيها على الجفاف)، وأخيراً هناك الفساد وعدم المساءلة والسكوت عن الخطأ لصالح إرضاء القيادات الريفية وشبكات المحسوبية والولاء السياسي.

في محاولة لإصلاح الأحوال الإقتصادية للفلاحين قامت الحكومة على مراحل بإعتماد سياسة إعادة توزيع للملكيات الزراعية. فقامت تحت مسمى الإصلاح الزراعي باستملاك الملكيات الكبرى من الأراضي الزراعية وتوزيعها على الفلاحين. وجاءت المرحلة الأولى من الإصلاح الزراعي بنهضة ريفية كبيرة (ترافقت مع استثمار واسع نسبياً في البنى التحتية في الريف) حسنت من قدرة سكان الريف على استخدام وسائل الإنتاج. إلا أن تقسيم الملكيات الزراعية إلى قطع صغيرة كان له مفعول عكسي على  المدى الطويل. فقد مضى جيلين على الأغلب منذ تطبيق القانون، ومع تقسيم الأراضي إلى قطع أصغر نتيجة الإرث فإن متوسط مساحة الأراضي الزراعبة في سورية صار من الصغر بحيث لا توجد جدوى حقيقية من زراعتها. في المقابل فإن كل عمليات الإنتاج الزراعي في العالم كانت تتجه إلى توسيع الملكيات الزراعية مما يخلق فرص مجدية لإستخدام وسائل الري الحديثة (وتوفير الهدر في مصادر المياه) والمكننة وتطوير مشاريع حصاد المياه وغيرها من التطورات التي جعلت المنتجات الزراعية متوفرة عالمياً بأسعار تنافس وبشكل كبير المنتجات المحلية.

ولكي تستطيع الحكومة من ضمان استمرار الزراعة بتشغيل الفلاحين وضمان معيشة أسرهم وبالتالي ولائهم لها قامت بدعم المنتجات الزراعي بطريقة مباشرة عن طريق شراء المنتجات الزراعية بأسعار مدعومة، وبطرق غير مباشرة عن طريق استمرار الدعم لمادة المازوت المستخدم في ضخ المياه اللازمة  للري وبالتغاضي عن استهلاك المخزون الجوفي من المياه بشكل غير مستدام (أفرغ مناطق بأسرها في الشمال الشرقي السوري من مخزونها من المياه الجوفية وحول فلاحي المنطقة إلى مهجرين). وكذلك عن طريق دعم القروض الزراعية (بدون فوائد أو بفوائد مخفضة). بالطبع فإن الحجة الكبرى لهذا النوع من الهدر في الأموال العامة جاء تحت مسميات قد تكون مصيبة في جانب منها ولكنها تركت أثاراً إقتصادية مدمرة ألا وهي تسمية الأمن الغذائي. ومهما تكن المسميات فإن الدعم الحكومي للزراعة استهلك موازنات ضخمة كان يمكن تحويلها لصالح تطوير بنى تحتية حقيقية في الأرياف ولصالح تدريب أبناء الريف على تنويع مصادر دخلهم وتوسيع الخدمات العامة والخاصة في الريف. أي أن سياسات دعم الزراعة التقليدية حرمت الريف من تمويل كان  يمكن أن يستخدم في تطوير تنمية حقيقية في الريف وتنويع مصادر دخله (إن السبب الأكبر لنمو المدن في سورية ليس فقط زيادة استثمارات الحكومة بل تشجيع استثمارات القطاع الخاص فيها). ولكن الأثار السلبية الأكبر لهذا الدعم تكمن في تكريس ثقافة التواكل والإعتماد على الحكومة وبالتالي ثقافة لاتستطيع أن تبدع وتطور أدوات الإنتاج ولا تشجع على التنافس. إضافة إلى  ذلك فإن الدعم الحكومي غير المبرر إقتصادياً يخلق دائماً شبكات من الفساد والمحسوبيات التي تستفيد من مواقعها المتنفذة.

ولكن تبقى مشكلة الريف الأكبر هو تفريغه من القوى المنتجة، وهو ما أثر بشكل كبير على التركيبة الإجتماعية فيه إضافة إلى تراجعه الإقتصادي. أغلب الأسر نزحت إلى المدن لتوسع دائرة دخلها فبقي جزء من الأسرة  في الريف والجزء الأخر انتقل إلى المدينة ومازالت هذه اللحمة  الأسرية مترابطة في أغلب الأحيان بحيث يدعم دخل طرفي الأسرة بعضه البعض. في العادة يأخذ مثل هذه الأسر جيل أخر قبل أن تنفصل عرى الروابط الإقتصادية بين طرفي الأسرة وهو ما بدأ يحدث مؤخراً. ومع تراجع العائد النسبي للزراعة في الإقتصاد صار الدافع للتحول إلى المدينة أكبر. لقد جاءت الهجرة من الريف إلى المدينة على حساب إخلاء الريف من اليد العاملة منه لصالح المدن الكبرى ولصالح العمل في الدول المجاورة. وبقي الريف يوفر بالحد الأدنى  قوت البقاء للشيوخ والنساء والأطفال. أما الرجال فهم في أغلب الأحيان يعملون كعاملين غير مؤهلين أو نصف مؤهلين بعيداً عن  أسرهم. وهم غالباً ما يرجعون إلى قراهم حاملين معهم قيم إجتماعية وثقافية مكتسبة.

كل هذا أدخل الريف السوري في حلقة مفرغة. الزراعة التقليدية لم تعد مجدية وسياسات دعمها تكرس الظروف التي تخنق الزراعة ككقطاع منتج. وعندما حاولت الحكومة التراجع عن هذا الدعم لم تستبدل هذا الدعم ببرامج تنمية حقيقية للريف السوري. فكل برامج التنمية الموجهة للريف مجتمعة لم تكن سوى نقطة في بحر مقابل الدعم المباشر وغير المباشر الذي كانت توفره الدولة للمنتج الزراعي غير المجدي إقتصادياً. فبدلاً من أن تطور الحكومة برامج حماية اجتماعية حقيقية وبرامج تدريب وإعادة تأهيل وبرامج قروض موسعة لتوازن العوارض السلبية لسياسات الإصلاح الإقتصادي التي اتبعتها الخطة الخمسية العاشرة، اتبعت الحكومة شبكة المحسوبيات الفاسدة لتنثر بعض البرامج غير المجدية وغير الكافية. وبقيت الحكومة تتردد بين سياسة الإصلاح الإقتصادي من جهة وسياسات الدعم التقليدية من جهة أخرى. ولم تطور الحكومة خطة تواصل واضحة لتشرح توجهها خشية مواجهة نفوذ النقابات والتعاونيات الفلاحية التابعة لحزب البعث والتي بقيت تخشى على نفوذها ومحسوبياتها التي تضمنها عن طريق التحكم ببرامج الدعم للريف.

السؤال اليوم بعد انفجار الوضع في الريف السوري نتيجة سنوات من الدعم الخاطئ والمحسوبيات والفساد في توزيعه وسنوات من التغيير الثقافي النابذ للتطوير والإبداع والمكرس للقيم التواكلية وبعد سنوات من تهجير شباب الريف للعمل على أطراف المدن الكبرى وفي دول الجوار والعودة بإيديولوجيات بعيدة عن القيم التقليدية الأصيلة للريف: ماذا يجب أن نفعل لإصلاح الوضع في الريف السوري؟ هل نرجع إلى الوراء ونحاول مجدداً استخدام الدعم المباشر للزراعة التقليدية ونغامر مرة أخرى مع الزعامات التقليدية التي بنت نفوذها عبر تحكمها بتوزيع عطاءات الحكومة، أم نبحث عن حلول بديلة؟ الأصوات التي تطالب بالعودة إلى الوراء هي في الغالب أصوات كانت منتفعة من الوضع السابق. لا أملك الجواب النهائي لهذه المعضلة ولكن الحل يجب أن ينبع من المبادئ التالية:

1-    يجب حساب دعم الحكومة الذي كانت تقدمه للريف السوري مباشرة أو بطرق غير مباشرة واستبداله التدريجي بالكامل إلى برامج تنموية للريف، بحيث لا تنقص حصة الريف من الموازنة العامة بل تتحول من برامج دعم يتحكم بها المتنفذين إلى برامج تنمية مجتمعية يستفيد منها أغلب سكان الريف وتحفز الإستثمارات  الخاصة في قطاعات جديدة.

2-    يجب تطوير أدوات إدارة محلية أكثر تمثيلاً لمصالح سكان الريف خاصة النساء (اللاتي يشكلن الجزء الأكبر من سكان الريف بعد هجرة الرجال للعمل في المدن وفي الخارج) وإعطاء هذه الإدارات التدريب والتمكين والموارد الحقيقية لإدارة شؤون مناطقها.

3-    يجب البحث عن أليات قانونية لتجميع الملكيات الزراعية (مع ضمان حقوق المالكين الصغار) بحيث تصبح وسائل الزراعة الحديثة مجدية إقتصادياً.

4-    يجب توفير حوافز اقتصادية (قروض، منح، تسهيلات، احتضان، إلخ) لدعم تشغيل اليد العاملة الإضافية في الريف لأن التوجه العالمي للزراعة هو في تقلص دورها في الناتج المحلي وفي توفير فرص العمالة، ولا بد من التخطيط لإحتواء فائض العمالة.

5-    يجب توسيع قواعد الخدمات الريفية في المدن الصغيرة والبلدات لتصبح أقطاباً تنموية لمجموعات القرى المحيطة بها بدلاً من العمل على القرى كل على حدى، ويجب ربط هذه الخدمات بحوافز اقتصادية للمجتمعات المحلية لتطويرها بدلاً من توفيرها بدون مقابل بما يكرس ثقافة التواكل.

6-    يجب توسيع رقعة التعليم ونوعيته في الريف من خلال تطوير برامج تربوية خاصة بالريف والمتطلبات اللوجيستية للتعليم الريفي.

7-    يجب توفير حوافز اقتصادية وفرص حقيقية لتشجيع الصناعات الخفيفة من التمركز في الريف بدلاً من سياسة تجميع الصناعات كلها في مناطق صناعية (كما حدث في حمص مثلاً حيث أجبر المحافظ السابق الفعاليات الصناعية الصغيرة على التحول إلى المدينة الصناعية بحسيا مفرغاً عدة مناطق ريفية من فرص العمل).

8-    يجب إعادة النظر بالحدود الإدارية للمناطق الريفية وضمان تمثيل أفضل على مستوى الوحدات الإدارية بحيث تقل أهمية تمركز السلطة في المناطق الأكثر ولاءً لجهة ما أو لشبكة محسوبيات معينة.

_____________________________________________

عمر عبد العزيز الحلاج: مهندس معماري ومستشار تنموي مستقل. عمل سابقاً  مديراً تنفيذياً للأمانة السورية للتنمية وهي مؤسسة غير حكومية غير ربحية تعمل في مجالات التنمية الريفية والشباب والثقافة.  وعمل قبلها قائداً لفريق مشروع التعاون التقني الألماني لتنمية المدن التاريخية في اليمن GTZ. كما كان شريكاً في سرادق، وهو تجمع استشاري للتنمية الحضرية وإدارة التراث الحضري في حلب، سورية. وقد تركز عمله المهني في السابق بشكل أساسي على دمج اعتبارات التنمية المؤسساتية والاجتماعية والاقتصادية في عملية انتاج الحيز المعماري والعمراني. هذا وقد تخرج الحلاج من جامعة تكساس في العام 1989 حيث حاز منها أيضاً على درجة الماجستير في العمارة في العام 1992. وقد بحث وحاضر في موضوعات تتعلق بالتاريخ والاقتصاد وسياسات التنمية في العالمين العربي و الإسلامي. وتشمل خبرته العملية المشاركة في العديد من اللجان الرسمية ومجالس إدارة المؤسسات المتخصصة بمتابعة قضايا التنمية الحضرية، وتطوير أطر إدارية وقانونية لحماية التراث، وإشراك جهود القطاعين الخاص وغير الحكومي في الإدارة الحضرية والتمويل الصغير. وقد منحت مؤسسة الآغا خان الحلاج جائزة الآغا خان للعمارة لعام 2007 تكريماً لدوره كقائد فريق المشروع اليمني الألماني للتنمية الحضرية في شبام في اليمن، و شارك كعضو لجنة تحكيم لهذه الجائزة لدورة عام 2010.



Comments (1)


Naim Nazha said:

I see a lot of central planing, i wonder if it would be better to let the farmers farm and sell the produce at market prices, the higher prices will encourage farming and consolidate farms and make them bigger and more productive, the government can support the farmers in bad years so they do not leave their farms, decentralization is what Syria needs children will learn farming in their farm towns not because they can not learn other things but because they like and see that they can make good living from it.

February 20th, 2013, 1:53 am

 

Post a comment