News and Opinion:
الأزمة السورية.. ما وراء التفسير السياسي
Saturday, November 10th, 2012
بقلم نضال الخضري
علينا أن نأسف ، فالمراجعة للأزمة السورية هي في النهاية أكثر من استعادة ذكريات عامين مرّا ، ولأن هذه الأزمة وصلت إلى نقطة حاسمة، فإن هذه المراجعة، تبدو كأنها قراءة للوعي الاجتماعي، وقراءة لمكونات تتشابك فتبدأ بالتواصل والاتصال، ثم تخلق قفزات متتالية خارج التوقعات، لتظهر علاقات جديدة وقيم خارج السياق العام، محاولة تشكيل بنية اجتماعية غير مألوفة، تحمل بذاتها كمّاً من أسئلة يصعب الإجابة عليها
فما عايشناه طوال عام وثمانية أشهر لا يقارب [الدراما] ، رغم أنه يملك ذلك “السيناريو” الانفعالي الذي وضع الجرأة في المقدمة، كما أن هذا “السيناريو” يطرح جملة من الصور، أرادها الإعلام تلخيصاً لرسالة في الحرية، فالمشاهد الأولى للأزمة كانت تبعث على الحيرة، ومهما اختلفت المواقف أو التفسيرات من بداية الحدث، فإننا لم نكن أمام تداعيات لهذه المشاهد، بل أمام احتمالات لتطورها، وكنّا أمام حالة من ظهور “دوافع” لم تكن معروفة على مساحة الحياة الاجتماعية.
ستبدو المسألة في السطور القادمة محاولة لوضع قراءة تحليلية للظواهر الاجتماعية في الحدث السوري، تحقق سبقاً على أية قراءة سياسية محضة له، فالمسعى الحقيقي للتحليل هو التقدم خطوة أمام أي تفسير سياسي لقراءة “الدوافع” و “المحفزات” ، تلك التي جعلت المجتمع السوري بيئة تكثر فيها الاحتمالات، وتندفع نحو حالة من “الخلق“، دون أن يعني هذا الخلق حالة إبداع أو ارتقاء، فمن كان يسعى للتعامل مع أهداف سياسية، أو حتى أجندة معينة ما (يسمّيها البعض مؤامرة)، لم يكن يدرك أن التجارب التاريخية تتجاوز أحيانا مسألة الاقتباس، أو ما يعبّر عنه بأنّ التاريخ يعيد نفسه
فالأزمة السورية التي جاءت بعد ظاهرة ما أطلق عليه “الربيع العربي” ، أثبتتْ أنها مغلقة تجاه أية “مقاربة” لما حدث في تونس أو مصر أو ليبيا، بل قدّمتْ نموذجها الخاص، ودخلت في مساحة من “الريبة” التي تنسف “النتائج” المتوقعة،والحدث السوري، تميّز بـ “الإثارة” الاجتماعية على يد أجهزة الإعلام، أكثر مما تميز به، كحدث سياسيّ، تتناوله السياسة بما يفترض أنها عملاً شاملاً منظماً، وحتى أنّ ما تمّ اعتماده في هذا الحدث من أدوات استخدمت في “الربيع العربي” كـ (البيئة الافتراضية)، لكن هذا الاستخدام كان مختلفاً نوعيا، ففعل “التواصل” و“أدوات الاتصال” بالنسبة للحدث السوري مثّلا أعلى درجات “الشك” ، حيث كان الحدث “يُخلق” عبر التواصل والاتصال ، وليس التفاعل معه
تواصل واتصال
سأبدأ من فرضية أساسية يمكن من خلال القراءة إثباتها أو ضحدها، فـ“التواصل” ينطلق من “فضاء مفتوح” ليصل إلى “احتمالات غير محددة“، هذه الفرضية يمكن شرحها بجملة من النقاط
ثوار الكيبورد
كان واضحا الاعتماد على “أداة الاتصال“، كأداة لخلق “بنية اجتماعية“مستقلة عن أي بناء آخر، فما أطلق عليه “ثوار الكيبورد” لم يكن مجرد مصطلح يعبّر عن التحريض ودوافع أخرى ، بل شكّل “بيئة افتراضية” كوّنتْ خلال مدّة قياسية “رموزاً” لبُنى اجتماعية مستقلة عن سياق البنى الاجتماعية المعروفة، فالمدوّنات كمحتوى ثقافيّ، ليست جديدة ما هو جديد، السياق الحامل لهذه الثقافة
إن مفهوم البنية الاجتماعية، كما تطهر عند ثوار “الكيبورد“، يخلق مفارقة كبرى مع المفهوم الأكاديمي للبنى الاجتماعية المعروفة، فليس له شكل أو مضمون البناء النظري لمفهوم البنية الاجتماعية في علم الاجتماع،فالغاية القصوى هي في محاولة بناء “مستوى من العلاقات” الافتراضية التي تشكل سياقا شكل لغة التخاطب داخل شبكات التواصل الاجتماعي، فـ“أداة الاتصال” شكلت سياقا وليس عاملا، فحتى داخل الفضائيات التي أرهقتنا بالأشرطة المصورة وبشهود العيان الذين تحولوا لمراسلين ميدانيين، كان هناك “سياق” يرسم الحدث من قبل مراقب لا ينفصل عن أداة الاتصال بل هي جزء من بنيته، ومن بنية الشبكة التي نشأت لتجمع هذه الوثائق المصورة، فهل يمكن هنا الحديث عن “دوافع” مختلفة داخل هذه البنية؟ بالتأكيد فإن الانتقال من “المراقب العادي” العاجز عن وصف الاستبداد إلى “المراقب” الذي يشكل “حدثا” بحد ذاته سيعيد تشكيل دوافع هذه “البنية الاجتماعية” التي كونت واقعا داخل الأزمة السورية تحكمه “قوانين مختلفة” لـ“ثائر الكيبورد” في لحظة تعامله مع أداة الاتصال، ولنفس “الثائر” عندما ينتقل إلى سياق آخر من الحياة اليومية وعلاقاته العامة مع محيطه
دوافع و حوافز
في إطار السياق الاجتماعي يمكن للحالة الافتراضية تركيب “البيئة” التي تريد، وذلك وفق لغة مركبة من الصوت والصورة والكلمة، فالسياق الاجتماعي كما ظهر عند “ثوار الكيبورد” أوجد “تصورات” ليس بالإمكان إيجادها أو خلقها بدون البيئة الافتراضية، لأنها تملك سياقها الذي يصعب رؤيته في الواقع، ولكن في المقابل فإن هذه التصورات هي المسؤولة عن التوجهات العامة في المجتمع لأنها رسمت اتجاها في تفسير الحدث
السياق الاجتماعي الذي أوجده “ثوار الكيبورد” بما يملكونه من وسائل حمل معه “طفرة” دوافع ومحفزات لكافة الشرائح داخل المجتمع السوري، ونحن نتخيل اليوم أن مجموعة من “المناضلين” الذين يغرقون “التويتر” و “اليوتوب” و “الفيس بوك” بمجموعة من الأخبار والمواقف التي ستصبح مادة إعلامية يُعاد إنتاجها ضمن برامج حوارية وتقارير سياسية وتبث لتصل إلى معظم الناس على صورة “ظاهرة” سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، فوفق هذه الآلية فإن شاهد العيان مهما كان موقعه أو موثوقيته يعيد عمليا صياغة “السياق الاجتماعي” لأنه يخرق القاعدة المتعارف عليها في مسألة التواصل مشكلا “لغة” مختلفة تحمل معها إمكانيات لـ“بنية اجتماعية” ولـ“سياق” مختلف عن المألوف، وهذه اللغة تزيح وبشكل عملي شرعية النخب مهما كانت، لأنها لا تستبدلهم بل تحل محلهم دون حاجة لصورة محددة ونمطية للمثقف والسياسي والفنان، فـ“السياق الاجتماعي” الذي يظهر قادر على تمكين أي مواطن عادي من التواصل الجماهيري
السياق الدولي اللاتماثلي
إن القاعدة الأساسية التي تكونت على أساسها مسألة “الثائر” في ظاهرة ما يسمى الربيع العربي لا تملك فقط “سياقا داخليا” فهناك أيضا سياق دولي حددته نوعية التفكير السياسي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، فالعالم منذ هذا الحدث دخل في لعبة كسر القواعد وحتى النظريات الاجتماعية، وغدت مسألة “الحرب” قانونا فرضته الولايات المتحدة ومارست فيه كل “الوسائل” التي كان من المفترض أنها انتهت بعد الحرب العالمية الثانية
انساق العالم حتى في نظرياته مع منتصف القرن الماضي إلى البحث عن “الصراعات“، بدلا من دخول الحروب بشكل مباشر، وبالتأكيد فإن حروبا كبيرة نشبت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن في المقابل فإن التفكير السياسي الدولي اتجه نحو “الحد” من النزاعات وإدخالها في إطار التحكم، ويعكس هذا الأمر اتجاها حتى على المستوى الاجتماعي داخل دول عانت من حربين متتاليتين كان مسرحهما العالم دون استثناء، ورغم أن السياسة وعلى الأخص في ستينيات القرن الماضي جابهت حركات احتجاج على مستوى أوروبا والولايات المتحدة ضد الحروب والتسلح النووي، لكنها في المقابل كانت تدخل في تفاعل دائم مع هذه الاحتجاجات، أما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فإن مسألة “الحرب” اتخذت موقعا مختلفا، فالحرب على العراق رغم كل المآسي التي حملتها لم تدفع نحو إعادة إنتاج ثقافي مختلف، وكل ما حدث منذ تلك الفترة هو تنافس سياسي، فالحادي عشر من أيلول شكل فضاء مختلفا ليس فقط في الولايات المتحدة بل في العالم، وهو فضاء قابل لكسر القواعد ومستند إلى ظرف مختلف من “اللا تماثل” في كل شيء، فالحرب على الإرهاب “لاتماثلية“، وتقنيات الاتصال هي أيضا “لاتماثلية“، وإمكانية ظهور ثورات اجتماعية “لاتماثلية” كان أمرا ممكنا
ظهر “اللاتماثل” في مصر عبر معادلة سياسية مستجدة يتزعمها الأخوان المسلمون، وهي معادلة طالما رفضها الإخوان الذين اغتالوا الرئيس أنور السادات وعادوا اليوم لتكريمه، ولا يعكس هذا الأمر سوى كسرا لقواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها، وربما استجابة لسياق دولي فرض نفسه وانتقل باتجاهات متعددة، وهو طال سورية من مختلف الجوانب، فالمسألة ليست استجابة لربيع عربي بقدر كونها سياق دولي، وهو بعكس مفهوم المؤامرة، لأنه يخلق بنية وسياقا داخل المجتمع ويخلق اتجاهات ودوافع، وأخيرا يبحث عن السياسة التي هي هدف المؤامرة
بنية اجتماعية
“ثورة أرياف” و “ثورة عشوائيات” وارتكاز إلى سياسات اقتصادية أدت لإفقار المجتمع، وبالإجمال فإن البحث عما حدث في سورية يملك تفسيرات بقدر ما نستطيع أن نفكك “البنية السياسية” طوال أربع عقود، لكن لحظة بدء الاحتجاجات هي التي حددت كل التفسيرات اللاحقة للأزمة السورية، فالحديث عن الاستبداد والفساد و “الفراغ السياسي” والفريق الاقتصادي الذي يقود باتجاه “اقتصاد السوق“، يبقى موضوعا قديما نسبيا، لكن الانتقال باتجاه الأزمة بكل ما تملكه من ردود فعل هو النقطة التي رسمت قواعد التفكير للمراحل اللاحقة، وفتحت احتمالات الزمن القادم، أما الوصف السابق فيبقى “تراكما” لمعرفة أصبحت منذ آذار 2011 تراثا ربما تستفيد منه الدراما السورية يوما ما
كانت البنية الاجتماعية في لحظة ولادة الأزمة على ثباتها، فحتى النشطاء داخل المجتمع المدني لم يتوقعوا سرعة الحدث، تقول إحدى الناشطات وهي من أوائل من تظاهروا أمام السفارة المصرية خلال الثورة المصرية: “كنا نأمل في نجاح مشابه لما حدث في مصر، ولكننا اعتقدنا أن الأمر سيستغرق منا بضع سنوات، لم أكن أتوقع اشتعال كل شيء بغضون بضعة أسابيع
في معظم الروايات التي ظهرت بعد الأزمة هناك “شهادات” لحالات عفوية حول لحظة البداية، وبشكل يوحي أن المسألة كانت من صنع أفراد عاديين، لكن إلى أي درجة يمكن أن ينطبق هذا الأمر على “الأحداث التاريحية“، وهل يمكن إهمال أي بنية اجتماعية فيما حدث؟ عمليا فإن حديث بداية الأزمة يقدم مؤشرات كثيرة على أن “البنية الاجتماعية” للأزمة مستقلة بذاتها عن أي تكوين سابق، ويمكن هنا ملاحظة أمرين سابقين
حديث “الرواد” أو أول “ثوار الكيبورد” لا يقدم تفسيرات كاملة لطبيعة ما حدث، فعلى سبيل المثال تتحدث “مروة الغميان” عن وقائع لتظاهرة الحميدية الأولى بشكل لا يشرح التداعيات الخطيرة التي ظهرت لاحقا، في المقابل فإن كم الأقاويل الذي ظهرت حول ما نشرته الغميان يدفع على الأقل للتساؤل حول نوعية “الثورة العارمة” التي يمكن أن تطلقها ناشطة بشريط فيديو بينما فشل من هم أخبر منها في إحداث أي تغيير؟! رغم ذلك فإن مثل هذه المحاولات ستتكرر وفي أوقات خاصة، لتظهر “حملة الحليب“، و “أوقفوا القتل” وغيرها من النشاطات المرتبطة بأسماء محددة، والمرسومة داخل محاولات خلق “بنية اجتماعية” داخل المساحة الافتراضية
“البنية الاجتماعية” الناشئة على خلاف أي مفهوم أكاديمي كانت تبدو كبيئة فقط، لكنها على صعيد الواقع الاجتماعي أوجدت خطا مختلفا يتيح التفكير والعمل داخل الأزمة وذلك بغض النظر عن أي تراتبية فكرية أو سياسية أو اجتماعية، فهي بنية متحورة إن صح التعبير وقادرة على إطلاق كل التصورات المحتملة.
إن الحديث عن بنية اجتماعية أوجدتها الأزمة يعتبر مجازفة كبرى لكنها ظاهرة عبر القدرة في جعل شبكة التواصل الاجتماعي، التي كانت غائبة في سورية، مرجعا ومجال صراع بين مؤيد ومعارض، وكونت “السياق” الذي يمكنه جرف ما تبقى من الطيف الاجتماعي نحو استقطابات متعددة، فالبيئة الافتراضية اكتسبت مرجعية خاصة لكافة وسائل الاتصال، ورغم أنها لم تصل لـدرجة “التنظيم الاجتماعي” لكنها خلقت فجوة في المساحة الاجتماعية ما بين الواقع القائم قبل آذار عام 2011 وما بعد هذا التاريخ، وهذه الفجوة أتاحت تعبيرا مختلفا ما بين “التظاهر” و “العنف المسلح” وصولا إلى العنف الاجتماعي، لتظهر الأزمة السورية بعد أكثر من عام ونصف خليطا من الإنفعال والإنفعال المضاد، وإذا كان من المفترض أن يصبح العمل السياسي هو المادة التي يمكنها ملأ هذه الفجوة، فإن كل الممكنات التي وفرتها “البنية” الجديدة لا تستطيع إنتاج عمل سياسي
إن تلك “البنية الاجتماعية” التي تظهر مع أداة الاتصال وتنتهي داخلها غير قادرة على إيجاد نسق من العلاقات والقيم التي تميز “البنى” المعروفة على صعيد الدراسات الاجتماعية، فأدوات الاتصال كلاسيكيا تؤثر على البنى الاجتماعية، لكنها في الحالة الافتراضية حاولت القيامبأمرين: الأول وضع “البيئة الافتراضية” بديلا عن مؤسسات المجتمع المدني في إحداث التغيير وفي تأدية مصالح اجتماعية محددة، ففي بعض شبكات التواصل شكلتالصفحات و “المجموعات” نوى للتنظيم والتحريك، كما شكلت شبكات تقوم بربط الفعاليات الفردية وإعطائها دلالات ومؤشرات اجتماعية
أما الأمر الثاني جعل التغير الاجتماعي مجرد تحول على مستوى “السلطة السياسية“، وذلك بغض النظر عن أي تحول ثقافي يمس القيم الاجتماعية ويؤثر في عمق “البنية الاجتماعية” الصاعدة، لذلك فليس من المستغرب أن تغطي مساحة الأزمة حالات تعبر عن ما قبل الدولة وتظهر وكأنها مساحة للغرائز بدلا من كونها عنفا ثوريا
إن كافة المكونات التي واكبت الأزمة السورية كانت ساحة احتمالات، فمن كان يحلم بالتغيير كان يدخل الرهان على هذا الاحتمال لكن بالتأكيد فلم يكن أحد قادر على حسم النتائج لأن ما حدث هو صراع تلك الاحتمالات داخل “بنية اجتماعية” ناشئة داخل واقع افتراضي وإسقاطها على الواقع لا يحمل سوى “ظلال” لحراك أو تغيير أو حتى إصلاح
Comments (1)
عامين… العنف والظهور الجديد | kharej_alserb said:
[…] الأزمة السورية.. ما وراء التفسير السياسي […]
May 25th, 2013, 4:34 pm
Post a comment