News and Opinion:
الأزمة السورية.. ما وراء التفسير السياسي

بقلم نضال الخضري

علينا أن نأسف ، فالمراجعة للأزمة السورية هي في النهاية أكثر من استعادة ذكريات عامين مرّا ، ولأن هذه الأزمة وصلت إلى نقطة حاسمة، فإن هذه المراجعة، تبدو كأنها قراءة للوعي الاجتماعي، وقراءة لمكونات تتشابك فتبدأ بالتواصل والاتصال، ثم تخلق قفزات متتالية خارج التوقعات، لتظهر علاقات جديدة وقيم خارج السياق العام، محاولة تشكيل بنية اجتماعية غير مألوفة، تحمل بذاتها كمّاً من أسئلة يصعب الإجابة عليها

فما عايشناه طوال عام وثمانية أشهر لا يقارب [الدراما] ، رغم أنه يملك ذلك السيناريوالانفعالي الذي وضع الجرأة في المقدمة، كما أن هذا السيناريويطرح جملة من الصور، أرادها الإعلام تلخيصاً لرسالة في الحرية، فالمشاهد الأولى للأزمة كانت تبعث على الحيرة، ومهما اختلفت المواقف أو التفسيرات من بداية الحدث، فإننا لم نكن أمام تداعيات لهذه المشاهد، بل أمام احتمالات لتطورها، وكنّا أمام حالة من ظهور دوافعلم تكن معروفة على مساحة الحياة الاجتماعية.

ستبدو المسألة في السطور القادمة محاولة لوضع قراءة تحليلية للظواهر الاجتماعية في الحدث السوري، تحقق سبقاً على أية قراءة سياسية محضة له، فالمسعى الحقيقي للتحليل هو التقدم خطوة أمام أي تفسير سياسي لقراءة الدوافعو المحفزات، تلك التي جعلت المجتمع السوري بيئة تكثر فيها الاحتمالات، وتندفع نحو حالة من الخلق، دون أن يعني هذا الخلق حالة إبداع أو ارتقاء، فمن كان يسعى للتعامل مع أهداف سياسية، أو حتى أجندة معينة ما (يسمّيها البعض مؤامرة)، لم يكن يدرك أن التجارب التاريخية تتجاوز أحيانا مسألة الاقتباس، أو ما يعبّر عنه بأنّ التاريخ يعيد نفسه 

فالأزمة السورية التي جاءت بعد ظاهرة ما أطلق عليه الربيع العربي، أثبتتْ أنها مغلقة تجاه أية مقاربةلما حدث في تونس أو مصر أو ليبيا، بل قدّمتْ نموذجها الخاص، ودخلت في مساحة من الريبةالتي تنسف النتائجالمتوقعة،والحدث السوري، تميّز بـ الإثارةالاجتماعية على يد أجهزة الإعلام، أكثر مما تميز به، كحدث سياسيّ، تتناوله السياسة بما يفترض أنها عملاً شاملاً منظماً، وحتى أنّ ما تمّ اعتماده في هذا الحدث من أدوات استخدمت في الربيع العربيكـ (البيئة الافتراضية)، لكن هذا الاستخدام كان مختلفاً نوعيا، ففعل التواصلوأدوات الاتصالبالنسبة للحدث السوري مثّلا أعلى درجات الشك، حيث كان الحدث يُخلقعبر التواصل والاتصال ، وليس التفاعل معه

تواصل واتصال

سأبدأ من فرضية أساسية يمكن من خلال القراءة إثباتها أو ضحدها، فـالتواصلينطلق من فضاء مفتوحليصل إلى احتمالات غير محددة، هذه الفرضية يمكن شرحها بجملة من النقاط

ثوار الكيبورد

كان واضحا الاعتماد على أداة الاتصال، كأداة لخلق بنية اجتماعيةمستقلة عن أي بناء آخر، فما أطلق عليه ثوار الكيبوردلم يكن مجرد مصطلح يعبّر عن التحريض ودوافع أخرى ، بل شكّل بيئة افتراضيةكوّنتْ خلال مدّة قياسية رموزاًلبُنى اجتماعية مستقلة عن سياق البنى الاجتماعية المعروفة، فالمدوّنات كمحتوى ثقافيّ، ليست جديدة ما هو جديد، السياق الحامل لهذه الثقافة

إن مفهوم البنية الاجتماعية، كما تطهر عند ثوار الكيبورد، يخلق مفارقة كبرى مع المفهوم الأكاديمي للبنى الاجتماعية المعروفة، فليس له شكل أو مضمون البناء النظري لمفهوم البنية الاجتماعية في علم الاجتماع،فالغاية القصوى هي في محاولة بناء مستوى من العلاقاتالافتراضية التي تشكل سياقا شكل لغة التخاطب داخل شبكات التواصل الاجتماعي، فـأداة الاتصالشكلت سياقا وليس عاملا، فحتى داخل الفضائيات التي أرهقتنا بالأشرطة المصورة وبشهود العيان الذين تحولوا لمراسلين ميدانيين، كان هناك سياقيرسم الحدث من قبل مراقب لا ينفصل عن أداة الاتصال بل هي جزء من بنيته، ومن بنية الشبكة التي نشأت لتجمع هذه الوثائق المصورة، فهل يمكن هنا الحديث عن دوافعمختلفة داخل هذه البنية؟ بالتأكيد فإن الانتقال من المراقب العاديالعاجز عن وصف الاستبداد إلى المراقبالذي يشكل حدثابحد ذاته سيعيد تشكيل دوافع هذه البنية الاجتماعيةالتي كونت واقعا داخل الأزمة السورية تحكمه قوانين مختلفةلـثائر الكيبوردفي لحظة تعامله مع أداة الاتصال، ولنفس الثائرعندما ينتقل إلى سياق آخر من الحياة اليومية وعلاقاته العامة مع محيطه

دوافع و حوافز

في إطار السياق الاجتماعي يمكن للحالة الافتراضية تركيب البيئةالتي تريد، وذلك وفق لغة مركبة من الصوت والصورة والكلمة، فالسياق الاجتماعي كما ظهر عند ثوار الكيبوردأوجد تصوراتليس بالإمكان إيجادها أو خلقها بدون البيئة الافتراضية، لأنها تملك سياقها الذي يصعب رؤيته في الواقع، ولكن في المقابل فإن هذه التصورات هي المسؤولة عن التوجهات العامة في المجتمع لأنها رسمت اتجاها في تفسير الحدث

السياق الاجتماعي الذي أوجده ثوار الكيبوردبما يملكونه من وسائل حمل معه طفرةدوافع ومحفزات لكافة الشرائح داخل المجتمع السوري، ونحن نتخيل اليوم أن مجموعة من المناضلينالذين يغرقون التويترو اليوتوبو الفيس بوكبمجموعة من الأخبار والمواقف التي ستصبح مادة إعلامية يُعاد إنتاجها ضمن برامج حوارية وتقارير سياسية وتبث لتصل إلى معظم الناس على صورة ظاهرةسياسية أو اجتماعية أو ثقافية، فوفق هذه الآلية فإن شاهد العيان مهما كان موقعه أو موثوقيته يعيد عمليا صياغة السياق الاجتماعيلأنه يخرق القاعدة المتعارف عليها في مسألة التواصل مشكلا لغةمختلفة تحمل معها إمكانيات لـبنية اجتماعيةولـسياقمختلف عن المألوف، وهذه اللغة تزيح وبشكل عملي شرعية النخب مهما كانت، لأنها لا تستبدلهم بل تحل محلهم دون حاجة لصورة محددة ونمطية للمثقف والسياسي والفنان، فـالسياق الاجتماعيالذي يظهر قادر على تمكين أي مواطن عادي من التواصل الجماهيري

السياق الدولي اللاتماثلي

إن القاعدة الأساسية التي تكونت على أساسها مسألة الثائرفي ظاهرة ما يسمى الربيع العربي لا تملك فقط سياقا داخليافهناك أيضا سياق دولي حددته نوعية التفكير السياسي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، فالعالم منذ هذا الحدث دخل في لعبة كسر القواعد وحتى النظريات الاجتماعية، وغدت مسألة الحربقانونا فرضته الولايات المتحدة ومارست فيه كل الوسائلالتي كان من المفترض أنها انتهت بعد الحرب العالمية الثانية

انساق العالم حتى في نظرياته مع منتصف القرن الماضي إلى البحث عن الصراعات، بدلا من دخول الحروب بشكل مباشر، وبالتأكيد فإن حروبا كبيرة نشبت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن في المقابل فإن التفكير السياسي الدولي اتجه نحو الحدمن النزاعات وإدخالها في إطار التحكم، ويعكس هذا الأمر اتجاها حتى على المستوى الاجتماعي داخل دول عانت من حربين متتاليتين كان مسرحهما العالم دون استثناء، ورغم أن السياسة وعلى الأخص في ستينيات القرن الماضي جابهت حركات احتجاج على مستوى أوروبا والولايات المتحدة ضد الحروب والتسلح النووي، لكنها في المقابل كانت تدخل في تفاعل دائم مع هذه الاحتجاجات، أما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فإن مسألة الحرباتخذت موقعا مختلفا، فالحرب على العراق رغم كل المآسي التي حملتها لم تدفع نحو إعادة إنتاج ثقافي مختلف، وكل ما حدث منذ تلك الفترة هو تنافس سياسي، فالحادي عشر من أيلول شكل فضاء مختلفا ليس فقط في الولايات المتحدة بل في العالم، وهو فضاء قابل لكسر القواعد ومستند إلى ظرف مختلف من اللا تماثلفي كل شيء، فالحرب على الإرهاب لاتماثلية، وتقنيات الاتصال هي أيضا لاتماثلية، وإمكانية ظهور ثورات اجتماعية لاتماثليةكان أمرا ممكنا

ظهر اللاتماثلفي مصر عبر معادلة سياسية مستجدة يتزعمها الأخوان المسلمون، وهي معادلة طالما رفضها الإخوان الذين اغتالوا الرئيس أنور السادات وعادوا اليوم لتكريمه، ولا يعكس هذا الأمر سوى كسرا لقواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها، وربما استجابة لسياق دولي فرض نفسه وانتقل باتجاهات متعددة، وهو طال سورية من مختلف الجوانب، فالمسألة ليست استجابة لربيع عربي بقدر كونها سياق دولي، وهو بعكس مفهوم المؤامرة، لأنه يخلق بنية وسياقا داخل المجتمع ويخلق اتجاهات ودوافع، وأخيرا يبحث عن السياسة التي هي هدف المؤامرة

بنية اجتماعية

ثورة أريافو ثورة عشوائياتوارتكاز إلى سياسات اقتصادية أدت لإفقار المجتمع، وبالإجمال فإن البحث عما حدث في سورية يملك تفسيرات بقدر ما نستطيع أن نفكك البنية السياسيةطوال أربع عقود، لكن لحظة بدء الاحتجاجات هي التي حددت كل التفسيرات اللاحقة للأزمة السورية، فالحديث عن الاستبداد والفساد و الفراغ السياسيوالفريق الاقتصادي الذي يقود باتجاه اقتصاد السوق، يبقى موضوعا قديما نسبيا، لكن الانتقال باتجاه الأزمة بكل ما تملكه من ردود فعل هو النقطة التي رسمت قواعد التفكير للمراحل اللاحقة، وفتحت احتمالات الزمن القادم، أما الوصف السابق فيبقى تراكمالمعرفة أصبحت منذ آذار 2011 تراثا ربما تستفيد منه الدراما السورية يوما ما

كانت البنية الاجتماعية في لحظة ولادة الأزمة على ثباتها، فحتى النشطاء داخل المجتمع المدني لم يتوقعوا سرعة الحدث، تقول إحدى الناشطات وهي من أوائل من تظاهروا أمام السفارة المصرية خلال الثورة المصرية: “كنا نأمل في نجاح مشابه لما حدث في مصر، ولكننا اعتقدنا أن الأمر سيستغرق منا بضع سنوات، لم أكن أتوقع اشتعال كل شيء بغضون بضعة أسابيع

في معظم الروايات التي ظهرت بعد الأزمة هناك شهاداتلحالات عفوية حول لحظة البداية، وبشكل يوحي أن المسألة كانت من صنع أفراد عاديين، لكن إلى أي درجة يمكن أن ينطبق هذا الأمر على الأحداث التاريحية، وهل يمكن إهمال أي بنية اجتماعية فيما حدث؟ عمليا فإن حديث بداية الأزمة يقدم مؤشرات كثيرة على أن البنية الاجتماعيةللأزمة مستقلة بذاتها عن أي تكوين سابق، ويمكن هنا ملاحظة أمرين سابقين

حديث الروادأو أول ثوار الكيبوردلا يقدم تفسيرات كاملة لطبيعة ما حدث، فعلى سبيل المثال تتحدث مروة الغميانعن وقائع لتظاهرة الحميدية الأولى بشكل لا يشرح التداعيات الخطيرة التي ظهرت لاحقا، في المقابل فإن كم الأقاويل الذي ظهرت حول ما نشرته الغميان يدفع على الأقل للتساؤل حول نوعية الثورة العارمةالتي يمكن أن تطلقها ناشطة بشريط فيديو بينما فشل من هم أخبر منها في إحداث أي تغيير؟! رغم ذلك فإن مثل هذه المحاولات ستتكرر وفي أوقات خاصة، لتظهر حملة الحليب، و أوقفوا القتلوغيرها من النشاطات المرتبطة بأسماء محددة، والمرسومة داخل محاولات خلق بنية اجتماعيةداخل المساحة الافتراضية

البنية الاجتماعيةالناشئة على خلاف أي مفهوم أكاديمي كانت تبدو كبيئة فقط، لكنها على صعيد الواقع الاجتماعي أوجدت خطا مختلفا يتيح التفكير والعمل داخل الأزمة وذلك بغض النظر عن أي تراتبية فكرية أو سياسية أو اجتماعية، فهي بنية متحورة إن صح التعبير وقادرة على إطلاق كل التصورات المحتملة.

إن الحديث عن بنية اجتماعية أوجدتها الأزمة يعتبر مجازفة كبرى لكنها ظاهرة عبر القدرة في جعل شبكة التواصل الاجتماعي، التي كانت غائبة في سورية، مرجعا ومجال صراع بين مؤيد ومعارض، وكونت السياقالذي يمكنه جرف ما تبقى من الطيف الاجتماعي نحو استقطابات متعددة، فالبيئة الافتراضية اكتسبت مرجعية خاصة لكافة وسائل الاتصال، ورغم أنها لم تصل لـدرجة التنظيم الاجتماعيلكنها خلقت فجوة في المساحة الاجتماعية ما بين الواقع القائم قبل آذار عام 2011 وما بعد هذا التاريخ، وهذه الفجوة أتاحت تعبيرا مختلفا ما بين التظاهرو العنف المسلحوصولا إلى العنف الاجتماعي، لتظهر الأزمة السورية بعد أكثر من عام ونصف خليطا من الإنفعال والإنفعال المضاد، وإذا كان من المفترض أن يصبح العمل السياسي هو المادة التي يمكنها ملأ هذه الفجوة، فإن كل الممكنات التي وفرتها البنيةالجديدة لا تستطيع إنتاج عمل سياسي

إن تلك البنية الاجتماعيةالتي تظهر مع أداة الاتصال وتنتهي داخلها غير قادرة على إيجاد نسق من العلاقات والقيم التي تميز البنىالمعروفة على صعيد الدراسات الاجتماعية، فأدوات الاتصال كلاسيكيا تؤثر على البنى الاجتماعية، لكنها في الحالة الافتراضية حاولت القيامبأمرين: الأول وضع البيئة الافتراضيةبديلا عن مؤسسات المجتمع المدني في إحداث التغيير وفي تأدية مصالح اجتماعية محددة، ففي بعض شبكات التواصل شكلتالصفحات و المجموعاتنوى للتنظيم والتحريك، كما شكلت شبكات تقوم بربط الفعاليات الفردية وإعطائها دلالات ومؤشرات اجتماعية

أما الأمر الثاني جعل التغير الاجتماعي مجرد تحول على مستوى السلطة السياسية، وذلك بغض النظر عن أي تحول ثقافي يمس القيم الاجتماعية ويؤثر في عمق البنية الاجتماعيةالصاعدة، لذلك فليس من المستغرب أن تغطي مساحة الأزمة حالات تعبر عن ما قبل الدولة وتظهر وكأنها مساحة للغرائز بدلا من كونها عنفا ثوريا

إن كافة المكونات التي واكبت الأزمة السورية كانت ساحة احتمالات، فمن كان يحلم بالتغيير كان يدخل الرهان على هذا الاحتمال لكن بالتأكيد فلم يكن أحد قادر على حسم النتائج لأن ما حدث هو صراع تلك الاحتمالات داخل بنية اجتماعيةناشئة داخل واقع افتراضي وإسقاطها على الواقع لا يحمل سوى ظلاللحراك أو تغيير أو حتى إصلاح



Comments (1)


عامين… العنف والظهور الجديد | kharej_alserb said:

[…] الأزمة السورية.. ما وراء التفسير السياسي […]

May 25th, 2013, 4:34 pm

 

Post a comment