أولا:تاريخ وأسباب الوضع الجيوسياسي لسوريا،أهميته وحقائقه الفعلية حتى اندلاع الأزمة:
-1- كان الوعي القومي المبكر في سوريا أساس إطلاق طاقة جيوسياسية خاصة ومتميزة،وكان وعيا تاريخيا محدداً بجملة شروط اجتماعية وسياسية،وهكذا عندما ظهر في جغرافيا محددة ذات أهمية،تفاعل معها بشكل خاص عبر الوسائط الحاملة لذلك الوعي في تطوراتها الفكرية والثقافية والسياسية والحزبية.
2- وفي تلك الجغرافيا ظهرت أحداث وقامت مشاريع خطرة كبرى،وتناقضات وصراعات سياسية،شكلت بالنسبة للوعي القومي السورية وحامليه تحديات إضافية ساهمت بقوة في الطاقة الجيوسياسية والدور الإقليمي لسوريا،كل ذلك في إطار ثلاثية عوامل الفعل لتلك الطاقة والدور(الوعي القومي،الجغرافيا،التناقضات والصراعات بتطورها).
3- صحيح أن بدايات الوعي القومي العربي الفكرية والثقافية الأولى قد ظهرت في لبنان،أو بعض النخب اللبنانية المقيمة في مصر أحيانا،إلا أن الوعي الذي ظهر في سوريا اتخذ من البداية طابعا نضاليا في مختلف الميادين،وتبلور كفاحيا ضد الاحتلال التركي ومواكبا لموجة المد القومي التنويري في المشرق،مشاركا في مختلف الفعاليات،ودفع ثمنا عاليا من الشهداء والمعتقلين في نهاية الحقبة العثمانية،بالمقابل لم يتمكن من تحقيق بعض أهم طموحاته بتوحيد المنطقة المشرقية،متعاونا وقائدا فكريا وسياسيا لما سمي بالثورة العربية،فظهر أن سويته متطورة جدا عن السويات الأخرى التنظيمية والفكرية والسياسية من السعودية بشكل خاص إلى كامل سورية الكبرى أو بلاد الشام،وظهر أن اللعبة الدولية الاستعمارية والقوى التي تقف وراءها أقوى منه بكثير،كما ظهر أن الشروط التاريخية العامة في المنطقة هي بدورها متخلفة عن طموحاته،فاخترقتها واحتضنتها القوى الاستعمارية(فرنسا وبريطانيا) وتابعت مشاريعها الاحتلالية والتقسيمية.
4- كان لميدان اللعب(الفعل)الجغرافي دورا كبيرا،لكنه وبفعل التدخل الخارجي المبكر والمشاريع الاستعمارية،فإن ذلك الميدان قد تقلص مباشرة بعد تنفيذ مشروع(سايكس بيكو)،وبشكل خاص بع إطلاق المشروع الصهيوني في فلسطين،وعوضا من جغرافيا سياسية إقليمية مشرقية واسعة،عرفت على مدى طويل(مئات السنين)بشكل خاص عشرات السنين من سلطة استعمارية تركية واحدة،ثم فترة الملكية الفيصلية الهاشمية وتابعيتها المركزية،بعد ذلك دمرت تلك الجغرافيا أمام طموحات النخب السورية وبعض فئات اجتماعية سورية صاعدة،دمرت إلى ميدان لعب ضيق،مختنق وخانق للسوريين،وافترض لاحقا تحديات وطموحات ووعيا وبرامج ونضالا سياسيا للتحقيق،ولم يكن الأمر عملا تعويضيا كاذبا أبداً.
5- من وقت مبكر إذن ضاق القميص الجغرافي على النخب السورية ووعيها القومي وطموحاتها بسبب التقسيم الاستعماري،ليس هذا فحسب،بل تحولت مشاريع التقسيم إلى عوامل معيقة جدا على الصعيد السياسي والعسكري والفكري،تحولت إلى عوامل مضادة ومحبطة في الكثير جدا من الأحيان،وعبر تاريخ طويل وبدلا من ساحة نضال واحدة واسعة،بدلا من تفاعلات كبرى إيديولوجية وسياسية واقتصادية واجتماعية،ظهرت تلك العقبات وطرحت تحديات ومهام لها الأولوية،وتسببت بتكاليف عالية،التحرر من الاستعمار،ثم مواجهة المشروع الأكثر خطورة(الصهيوني الاستيطاني،العنصري والكياني،اسرائيل).
6- بالمقابل،وعلى الرغم من العقبات والصعوبات الإحباطية الجديدة،كالتقسيم وظهور سلطات انعزالية قطرية متحالفة غالبا مع الخارج الأوروبي والأمريكي لاحقا،الخارج الذي أطلق بقراره وإشرافه وحمايته ودعمه غير المحدود المشروع الصهيوني،على الرغم من هذا الوجه للقضية،فإنها حفزت عملية المواجهة والوعي القومي،وتحولت إلى تحدي دائم للنخب السورية،والسوريين كشعب،وكذلك لمختلف الأنظمة الاجتماعية- السياسية التي حكمت سوريا،كل نظام بقدر شروط تكونه التاريخيه،ولم يحصل أبدا أن تمكن نظام سياسي سوري واحد الهرب،أو النأي بالنفس،أو عزل ذاته عن قضية الطاقة الجيوسياسية السورية،أو الفعل الإقليمي السوري.
7- وشكلت التطورات الرأسمالية المعاصرة من بداية القرن العشرين في سوريا،بتخلفها وتبعيتها،وعملها على بنية اجتماعية واقتصادية سورية خاصة(التكوينات الرأسمالية في المدن،وتقدم المسألة الزراعية الفلاحية)شكلت مدخلا هاما جدا في إكساب الوعي القومي العروبي السوري أبعادا خاصة وأساسية،وذلك بسبب تشكل بحر واسع من الفئات البورجوازية البينية،أو الوسطى،أو مجازا ذات الطابع البورجوازي الصغير بكامل مطالبه وطموحاتها ونضالاتها الاجتماعية والقومية،وشكل بيئة واسعة حاضنة للأفكار والبرنامج القومي للأحزاب السياسية القومية من وقت مبكر،بشكل خاص حزب البعث العربي الاشتراكي بأطرافه المكونة بداية،ولاحقا عبر السلطات والنظم السياسية التي شكلها،أو فروعه في أقطار عربية أخرى،كما نتذكر أهمية حركة القوميين العرب وتطوراتها في ذلك السياق.
8- إن الوجه الكفاحي العملي للوعي والطاقة الجيوسياسية والدور الإقليمي السوري كان مبكرا جدا بعلاقته العضوية والطردية مع أهم القضايا القومية العربية،من شهداء السادس من أيار،إلى الدور الكبير للنخب السورية(حركة الجابري) فيما سمي بالثورة العربية الكبرى،إلى التطوع والدور القيادي في معارك فلسطين المبكرة ضد الإنكليز والصهاينة(القسام) إلى التطوع في العراق وثورة الكيلاني(العديد من القيادات البعثية والقومية الأخرى)إلى التطوع الواسع في جيش الإنقاذ جسدا مقاتلا وقيادات،ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود،بل قام السوريون بغالبيتهم الكاسحة نخبا وفئات اجتماعية وشعبية(خاصة حزب البعث وجمهوره)وذلك في قمة لحظات المد والنهوض وموجة الصعود القومي،قاموا بالتطوع الشامل إلى مصر لتطوير النفوذ والوعي القومي والدور،ويمكن القول مجازا أنهم فرضوا الوحدة مع مصر عبد الناصر.
9- ومع انطلاق وتطور ظاهرة المقاومة الفلسطينية فإن أعدادا كبيرة جدا من السوريين قد التحقوا بهذه الظاهرة كمتطوعين مقاتلين أو قياديين،إذ كان الوضع السوري قد تطور وقطع أشواطا واسعة وعميقة فيما يتعلق بوصول حزب البعث للسلطة وتشكيله نمطا رأسماليا خاصا،ونظاما سياسيا خاصا(رأسمالية الدولة البيروقراطية)كنمط تفاعلي خاص عبر تاريخ العلاقة مع الفئات البورجوازية الصغيرة البينية،كنمط (ثانوي وهامشي انتقالي مقارنة بالنمط الرأسمالي الرئيسي)اعتمد لاحقا قضية توسيع دور الدولة القيادي اقتصاديا في التأميم وحيازة واعتبار نموذج ملكية الدولة بالوكالة(الحيازة وحق التصرف)نموذجا خاصا بتلك الفئات عبر الدولة والسلطة والحزب والبرنامج الاجتماعي الاقتصادي وتطوراته.
10- من الملفت للنظر جدا حقيقة بدئية الوعي القومي العربي في سوريا،وحقيقة مركزيته،وحقيقة انطلاقه النشط وتفاعله وتطوعه المتنوع إلى البؤر القومية العربية خارج سوريا،كان الأكثر سبقا ونشاطا وفاعلية مقارنة مع الساحات العربية والنخب والجمهور الشعبي فيها،والتي لم تقابل الحالة السورية في العديد من اللحظات الخطرة درجة ولو بسيطة من وعيه وحماسه وممارساته خاصة في لحظات الخطر والحاجة السورية لذلك،آخذين بعين الاعتبار التطورات التاريخية بتسارعها وديناميتها ونتائجها وصولا إلى الأزمة الوطنية السورية انطلاقا من \أواسط آذار 2011\.
11- حتى تجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي لم تكن خارج ذلك السياق،بل صبت في إطاره بصورة فعلية على الرغم من الخلافات في الإنطلاق الفكري كقاعدة في الاستراتيجيا والممارسة السياسية(قومية وأمة عربية،أم قومية وأمة سورية)كانت الجغرافيا السورية الكبيرة(الهلال)وكانت المسائل والبؤر الكفاحية داخلها أساسية في نشاط السوري القومي(فلسطين مثلا)بل كان الحزب السوري أكثر تشددا من منظور إيديولوجي عقائدي تجاه المشروع الصهيوني،وليس مستغربا لاحقا ذلك الالتحام الاستراتيجي بين الحزب السوري على الرغم من انقساماته من جهة،والنظام السوري من جهة أخرى،وذلك في غالبية سياسات النظام على كامل المنطقة خاصة بعد تدخله في لبنان.
12- أريد القول والتأكيد أن موضوع الوعي الجيوسياسي،واستراتيجية البحث الفعلي عن دور متميز وخاص لسوريا في الإقليم والمنطقة العربية،ومجمل الممارسات والبرامج،لم يكن شيئا خاصا ببعض النخب السياسية أو الفكرية،ولم يكن وعيا ذاتيا فانتازيا خياليا في إطار المنطق الذهني والرغبات،بل كان معمما بدرجة واسعة وعميقا،كان أولا ذا طابع موضوعي تاريخي،بحيث لم يستطع أي نظام،أو حزب رئيسي،أو شخصيات عامة أن تتهرب منه أو تهمله أو تتجاوزه،تمثلت الفوارق في مستوى الحضور وفي وسائل الفعل،وسنلاحظ أهمية هذه الشروط والاعتبارات لاحقا مع تصاعد التناقضات والصراعات الإقليمية،وتصاعد الدور الخارجي التدخلي ومحاولات تقليص هذه الطاقة والدينامية السورية.
13- لا شك بأن الجغرافيا العربية كانت مطمعا واضحا للمصالح والخطط الخاصة بالقوى والمراكز التدخلية الخارجية،لكن كان لسوريا بشكل خاص،سوريا الكبرى أو بلاد الشام أو سوريا بجغرافيتها الناجمة عن سايكس-بيكو(سوريا الصغرى)كان لها حصة كبيرة في مطامع القضم،كان للنظام التركي ومطامعه الاستراتيجية دورا كبيرا في محاولات مواجهة أهمية الحلقة الجيوسياسية السورية،بل كان هناك فعل انتقامي تركي من النخب السورية ووعيها ونشاطها الكفاحي ضد العثماني،وقضية اللواء مثال صارخ،وسنلحظ بوضوح استمرار ذلك النهج والمطامع التركية تجاه سورية،خاصة بعد اندلاع الأزمة الوطنية السورية،وسنوات الصراع الثلاث الأخيرة،كما يشكل الكيان الصهيوني ونهجه واحتلاله للجولان وإصراره على التشدد بضمه،أو اعتباره حلقة خاصة في التفاوض،يشكل هذا مثالا آخرا صريحا في الرد على الدور السوري والطاقة السورية.
14- ويمكن التنويه أو الإشارة إلى أن الطاقة الجيوسياسية السورية،والدور السوري الإقليمي،كأنه قد تشكل وأعطى أو جعل من سورية ساحة وحلقة فعل خاصة،أكبر من مكوناتها وعواملها الحاملة لذلك،وأن تطور الشروط الذاتية والمحيطة تدفع باتجاهات تناقضية معاكسة،وأن هذا الأمر سيكون من منظور التطورات التاريخية قابلا للتأثر والتغير والتراجع،خاصة مع التطورات الأكثر حداثة،التطورات التي حضر فيها عامل التدخل الخارجي بصورة كثيفة،كيف ذلك؟!
15- لم تكن اتجاهات الفكر القومي بتنوعها هي المعنية بالتفاعل والعمل على الطاقة الجيوسياسية السورية،إذ بعد الأخطاء الكبيرة للحركة الشيوعية التقليدية في سورية تجاه القضايا القومية،مما أدى إلى انقسامات عميقة داخلها لأخذ تلك القضايا بعين الاعتبار(انقسام المكتب السياسي)كما جاء اليسار الماركسي الراديكالي كظاهرة من خارج الحركة الشيوعية السورية التقليدية،جاء بوعي متطور لهذه القضية،كما حصل في ظاهرة الحلقات الماركسية وصولا لتجربة حزب العمل الشيوعي.
ثانيا: أهم السمات والتطورات الحديثة في هذه القضية:
1-إن الشرط التاريخي التطوري،وقوة العامل الموضوعي في قضية الدور السوري الجيوسياسي قد تفاعل بصورة وديناميات خاصة مع النظم والقوى والتعبيرات السياسية- الاجتماعية السورية،بعض هذه القوى والنظم وسعت من هامش وحقيقة فاعلية تلك الطاقة والدور السوري،بعضها حدد استراتيجيات صريحة لأخذ ذلك الدور وتطويره،وبعضها استخدم وسائط قوة شديدة ولسي فقط وسائط قوة ناعمة في خدمة تلك الاستراتيجيات.
2- التطور الأساسي اللافت في موضوع الطاقة الجيوسياسية والدور الإقليمي السوري حديثا وحتى الآن،وعلاقة الموضوعي بالذاتي ،تحقق بعد وصول حزب البعث إلى السلطة وتشكيله نمطا اجتماعيا-سياسيا-اقتصاديا لنظام سياسي وشكل حكم محدد،ومعرفته درجة مهمة من الثبات والاستقرار في تطبيق مستوى من الوعي القومي،والتفاعل الوطني القومي،وكذلك تطبيق وممارسة العديد من القضايا البرنامجية،وبشكل خاص بعد وضوح وتطور التناقضات وارتقاء الصراعات ووسائلها مع الكيان الصهيوني،بعد تضخم الدولة السورية ومؤسساتها،بشكل خاص المؤسسة العسكرية،وكذلك احتضان ظاهرة المقاومة الفلسطينية باتجاهها الرئيسي الحاسم(فتح) وفتح المجال لها واسعا جدا في سوريا،ثم قيام حربين مع الكيان الصهيوني،وحصول وقائع احتلال مما زاد في عملية الترابط الوطني والقومي بالتمفصل على الموضوع الفلسطيني.
3- وكانت هناك محطات وحقائق فعل جيوسياسي سوري حديث كثيرة وهامة(حرب تشرين\73\،التدخل السوري في لبنان وتبعاته اللاحقة،مسار السادات في التسوية والدور السوري الصراعي في ذلك بعدد كبير من الخطوات التحالفية،وكذلك في الجامعة العربية، التناقضات التركية السورية وعلاقة التحالف الاستراتيجي مع حزب العمال الكردستاني وفتح مجالات هائلة لتطور نفوذ ذلك الحزب من سوريا،الاجتياح الاسرائيلي للبنان ومحاولة فرض اتفاقية سلام والدور السوري اللاحق،الدور السوري في الحرب الخليجية بين النظام العراقي والإيراني بعد انتصار”الثورة الإسلامية”،استمرار سياسات تطويع وهضم الساحة اللبنانية،اتفاقات ثنائية كثيرة والطائف .الخ،حتى بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان،ويقال أن النظام السوري والسوريين خرجوا بزي عسكري ليدخلوا بزي مدني،الانتصار على العماد عون والاشتراك العسكري السوري في عملية تحرير الكويت قبل ذلك،الدور السوري في حرب تموز\2006\ وغزة بعدها،كامل العلاقة مع محور إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية بحسب فصائلها والمراحل)،تلك المحطات والسياسات الخاصة بها رفعت من مستوى حضور التناقض مع الكيان الصهيوني،وكذلك التناقضات مع حلفائه وطرحت حقيقة أن العيون الخارجية التي كانت على سوريا من زمن بعيد،فإن أصحاب هذه العيون بصدد تكثيف جهودهم لتدمير تلك الطاقة وذلك الدور ومثل تلك الممارسات والخطوات.
4- إذا تذكرنا وأحضرنا وعي أهمية وجود موجات تاريخية مدية صاعدة،أو مجذورة متراجعة،فإنه لا بد من ملاحقة تطورات النظام السوري والدولة السورية الممسك بها،لمعرفة تطور ظاهرة الطاقة الجيوسياسة والدور الإقليمي،إذ في الوقت الذي طور فيه النظام الطاقة والدور المعنين بصورة متصاعدة حتى وصل به حدا عاليا جدا وخطرا عليه وعلى سوريا بالذات،بسبب عدد من الشروط على رأسها تراجع موجة المد القومي والاشتراكي العدالي،وتقدم موجة الإسلام السياسي والليبرالي الخارجي،وأطرافهما الداخلية والخارجية العاملة على تدمير تلك الطاقة بكل الوسائل،ومن جهة أخرى فإن النظام السوري نفسه وبسبب طابعه القمعي والديكتاتوري،ومن ثم احتكاره ليس فقط للسلطة بل للمسألة الوطنية وكامل التفاعلات والدور القومي والإقليمي،هكذا أخل بمعادلة وجدل مزدوجة العلاقة الثنائية بين القومي-الوطني والديموقراطي،مما أدى عبر زمن طويل(حوالي خمسة عقود) خاصة بعد تطورات كبيرة في دورة حياة نمط(بورجوازية الدولة البيروقراطية)وتراجع المطالب والمهام القديمة وعلاقات الترابط مع قاعدة اجتماعية واسعة من الفئات البينية،لتحل محلها بالتدريج علاقات وقاعدة اجتماعية مختلفة بدرجة مؤثرة نسبيا،وفي ذلك السياق من تطور النمط واتساع الدولة وتضخمها فإنها أصيبت بالترهل بسبب استمرار احتكار السلطة،واستخدامها في حماية نفوذ السلطة بالابتلاع والفساد والحفاظ على الاحتكار بالقمع،ذلك الوضع لم يعد يسمح بالأداء القديم وتطوير الطاقة والدور.
5- بالإضافة لذلك بدأ الدور الخارجي التدخلي بالتصاعد بعد الاحتلال الأمريكي للعراق،وحاول خلق اختراقات في الوعي والدور السوري بكل أطرافه،وسهل النظام ذلك باستمراره في عملية احتكار السلطة،مما خلق ردود فعل اجتماعية وشعبية،وأساسا ردود فعل نخبوية سيئة،وسمح بتحقق نتائج كبيرة لاستراتيجية ووسائل العمل الأمريكي،فظهرت نخب سورية واسعة تطالب بالتدخل الخارجي بما فيه العسكري كوسيلة حتمية وضرورة لإجراء تغيير ديموقراطي في سوريا،وبعد اغتيال الحريري والسعي الغربي لإلباس النظام السوري عملية الاغتيال وخروجه من لبنان فإن الاستراتيجية والنهج الأمريكي – الاسرائيلي تحول إلى خطة الفوضى الخلاقة،والتدمير الذاتي لطاقات المنطقة،وبشكل خاص سوريا كحلقة اهتمام مركزية خاصة.
6- وعلى الرغم من كل الجهود،ومحاولة تدمير وتحويل الطاقة الجيوسياسية والدور السوري الإقليمي إلى جهات أخرى،فإن الشروط التاريخية والقوة الموضوعية،والسويات والآثار التي تحققت،كل ذلك عاد وفرض نفسه على المنطقة بطرق عديدة،عاد الدور السوري التفاعلي إلى لبنان خاصة،والعراق والأردن وتركيا ومصر،بدا الدور السوري ولا يزال مركزيا في التأثير،ومن المؤسف أن القوى التي دخلت سوريا هذه المرة كانت قوى تدمير للطاقة والدور،كانت قوى انتقامية براغماتية وثأرية،وبقسم كبير منها كانت أدوات للخارج الدولي والإقليمي.
7- لكن الأزمة الوطنية السورية،والآثار الكارثية المدمرة،وإطالة الصراع والأزمة،والجهد الهائل للدور التدخلي الخارجي،كل ذلك أصاب الطاقة الجيوسياسية السورية،وقوة الدور،أصابهما بالتآكل والضعف والتراجع،ويكاد يجعل من سوريا ما نسميه(بالحلقة الضعيفة)القابلة للكسر،يجعلها أكثر من أي مرة في تاريخها المعاصر والحديث جاهزة للتدخل الخارجي،وإمكانية تحقيق مطامع استراتيجية(تركية أولا،واسرائيلية،وأمريكية وغربية)
ثالثا:العلاقات الدولية،السيادة،موقع ودور سوريا:
1-كانت قضية انتهاك السيادات الدولية قائمة على طول الخط،قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وبعده،إن المركز الامبريالي الأمريكي والغربي لم يوقف ذلك النهج والممارسات بحجج كثيرة،ولقد قدمت شروط الأزمة والصراع في سوريا فرصة لذلك الانتهاك من اللحظات الأولى،ولولا الموقف الأمريكي القيادي والمايسترو والغربي والتركي لكانت هناك استحالة في وصول الأزمة والوقائع والآثار التدميرية إلى ما وصلت إليه في سوريا،الاستقطاب والانحياز السريع في الصراع،الحصار والعقوبات،الدعم اللوجستي الشامل،اللعب والقرارات الوقحة في المؤسسات الدبلوماسية والسياسية وغيرها الدولية والعربية،لكن مما ساعد في هذا الأمر الاختراق المبكر الذي حصل في وعي نخب سورية واسعة والمطالبة بالتدخل،واعتبار مسألة السيادة قديمة بالية لا معنى لها،وأن علاقات الترابط الدولية،وتراجع الوطني والقومي أمام الدولي والعالمي والعولمة جعل من تلك المقولات حبرا على ورق.
2- وعلى الرغم من بعض الانزياحات في الموقف الأمريكي،وبعض التناقضات الإقليمية،فإن استراتيجية العمل الرئيسية لا تزال استمرار التدمير الذاتي في سوريا،ويعمل كامل الصف الأمريكي،أو ما يسمي نفسه”بصف الثورة”على تنفيذ تلك الاستراتيجية.
3- ومهما حدث من تماسك داخلي سوري،بشكل خاص من قبل الجيش،الذي يعمل الآن أكثر من أي مرحلة في وجوده كجيش وطن ودولة وشعب وسيادة،وليس كجيش سلطة مقارنة بالزمن القريب،ومهما تحقق من تماسك سلطوي وشعبي لمواجهة استراتيجية التدمير الذاتي،واستراتيجية تدمير الطاقة الجيوسياسية والدور الإقليمي ،فإن التدمير الذي أصاب العديد من العناصر الأساسية سيسمح بربط الوضع السوري برمته بقضايا سياسية إقليمية كبيرة،بدون ذلك المستوى من الطاقة والفعل السوريين الإيجابيين،وسيسمح بأ تكون التنائج أكثر فأكثر في صالح النفوذ الأمريكي-الغربي-الاسرائيلي.
4- على الرغم من الدور الروسي الصاعد لاسترجاع طاقة فعله ودوره الدوليين،لأسباب حقيقية تقوم أساسا بسبب استراتيجية ونهج تهميش الدولة الروسية وتهميش دورها وإضعاف هذه الدولة،وتدمير عوامل قوتها،،من قبل المركز الأمريكي-الغربي،وكذلك بسبب الأخطار المحتملة من الإسلام السياسي في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي،وخطر الإرهاب،مما استدعى تطور القوى الروسية الداخلية لاستعادة قوة الدولة،ودور مكافىء لتلك القوة،وفي ذلك الإطار يظهر الخطاب الروسي الدبلوماسي والسياسي قيمة أخلاقية كبيرة،وقيمة تأثيرية بحرصه على العمل بمحتوى الوثائق الدولية القائمة حتى الآن،ورفض التدخلات الأمريكية والغربية،والإصرار على مسألة السيادة،مع ذلك فإن الدور الروسي وعلى الرغم من أهميته الكبيرة لا يزال منفعلا على الدور والنهج والممارسات الأمريكية ،ولا يزال دفاعيا عن نفسه وغيره من دول وسلطات أخرى كالحالة السورية،ولا تزال قيمته الاستراتيجية بعيدة بالمقارنة مع الدور السوفييتي السابق لأسباب عدة،لكن الدور الروسي وبتطوير تحالفاته مع دول البريكس،وخاصة بتشدده الجديد بعد أحداث أوكرانيا فإنه سيلعب دورا مهما في مقاومة الجهود الأمريكية والغربية والتركية في تدمير الحالة السورية ومقوماتها.
5- وفي كل الأحوال من الصعب جدا إن لم يكن مستحيلا عودة الشروط السياسية والطاقة الجيوسياسية والدور السوري الإقليمي إلى ما كان إليه سابقا،وسيكون الطرف التركي والصهيوني الأكثر استفادة على حساب الوضع السوري واستغلال الأزمة ونتائجها.
6- مما يعني أن وضع الأراضي السورية المحتلة سابقا من قبل الكيان الصهيوني والنظام التركي سيكون أكثر تعقيدا،وسيكون مؤجلا من زاوية إمكانية عمليات التفاوض والسلام،وتصبح استراتيجية المقاومة الشعبية ضرورية جدا وأكثر من أي وقت مضى في هذه الشروط من اللعب الخارجي والتدخل خاصة على الشريط الحدودي التركي مع سوريا،وفي الجولان المحتل،ويمكن التأكيد أن النظام التركي قد استولى على أراض إضافية،وأن أدواته على الشريط تعمل على كل ما يخدم مطامحه الاستراتيجية في سوريا.
7- أخيرا: إن قضية طاقة سوريا الجيوسياسية ودورها الإقليمي هي قضية في قلب الصراع الناشب،وفي قلب الاستقطاب والانقسام الوطني السوري العميق عليه أيضا،واحتمالات وآفاق ذلك الصراع،وإذ هناك استحالة في عودة الوضع السوري إلى السابق بأساسياته،وأن هناك حتمية في ضرورة الحوار والتوافق على عقد اجتماعي سياسي جديد،وتجاوز المرحلة الانتقالية،فإن السوريين بانقسامهم يبدو صعبا أيضا أن يتوافقوا على المحافظة على الطاقة وقوة دور سوريا كحلقة فعل كبيرة،خاصة وهامة،أما نحن في منظومة قوى التغيير السلمي فسنعمل على المحافظة على أكبر قدر منها،ليصبح ممكنا في المستقبل تطويرها.
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟