دراسة طلال الأطرش

 

شكلت العلمانية العمود الفقري لوحدة الكيان السوري الحديث الذي جمع  مناطق عدة كانت تتمتع بحكم ذاتي أو استقلال شبه تام عن السلطة المركزية، مثال جبل العلويين وجبل الدروز وبعض البلدات الارامية والسريانية في القلمون وشمال شرق الحسكة. ومن ناحية أخرى، فالتقارب الذي جرى بين المدن والريف السوري ادى الى تنمية هوية سورية جامعة لم تكن موجودة خلال العهد العثماني، حيث كانت الهوية الطائفية تشكل الركيزة الاساسية للحكم العثماني. ومنذ الاستقلال في عام 1946، بقيت الهوية السورية غير مكتملة بفعل 4 عناصر رئيسية وهي:

  1. ارث الخلافات الاسلامية التي عملت طيلة القرون الماضية على خلق مجتمع فيؤي يسوده الانتماء الديني والطائفي وفي بعض الاوقات القبلي على حساب الانتماء الوطني
  2. اهمال السلطات المتتالية للمسألة الطائفية في سورية والعمل على طمس هذا الموضوع عن طريق عدم الاعتراف بوجوده وبوجود ازمة هوية
  3. التركيز ايديولوجياً على القومية العربية، بدلاً من العمل على تعزيز مبدأ المواطنة وهوية وطنية جامعة في سوريا
  4. توسع النفوذ الثقافي للمملكة العربية السعودية عبر الاعلام (الفضائيات الدينية) والمال (ومنه العمل الخيري) وهجرة السوريين للعمل في المملكة (جزء من المغتربين العائدين الى سوريا جلبوا معهم الفكر الوهابي الى مدنهم وقراهم).

الحرب الحالية أعادت الى الواجهة مسألة تحديد الهوية السورية والانتمائات الطائفية والقبلية والعرقية في المستقبل المنظور. شبح الماضي يخيم على المجتمع السوري. والملفت هو ان الجيش السوري يعتبر اليوم المؤسسة الوحيدة الضامنة لوحدة الراضي السورية، ما يعكس ضعف المجتمع المدني في ظل ازمة ثقافية وفكرية كادت ان تلغي الهوية السورية من الوجود. وفي حال انهار الجيش، قد تكون سوريا مقبلة على تكرار الصيغة اللبنانية أوالعراقية المتمثلة بالمحاصصة الطائفية أو حتى السيناريو اليوغسلافي ، اي تقسيم سوريا الى دويلات.

 

إيجاد قاعدة لحل مستدام: التمدن – العلمانية والتعددية السياسية

ان مسـألة محاربة الطائفية وتنمية هوية وطنية جامعة يتطلبان زمن طول – ربما عقدين من الزمن أو جيل – ويبدأ بوضع رؤية واستراتيجية بعيدة الامد. وهنا، يمكن لسوريا الاستفادة من بعض التجارب التي طبقت سابقا في العالم الاسلامي، ومنها التجربة التونسية في عهد بورقيبة والتجربة الكمالية في تركيا، مع بعض التعديلات الهامة الهادفة الى تجنب الاخطاء التي ارتكبت في هذين البلدين – وأهمها ضرورة الاعتراف بالمد الديني والتعامل معه وترويضه والتأثير عليه بدلاً من عدم الاعتراف به، وهذا يتطلب الى دراسة معمقة والاستناد الى احصائيات وبيانات دقيقة تساعد الدولة والفعاليات المدنية والسياسية على معرفة حجم التيار الديني علىى الصعيد الاجتماعي وتنظيمه المؤسساتي.

سنتطرق الى بعض النقاط التي يمكن العمل عليها في الفترة ما بعد انتهاء الحرب. ويجب الاشارة الى أن السياسات المقترحة هنا مرهونة بالشكل وبطبيعة الدولة التي ستنشأ بعد انتهاء المعارك، اخذاً بالاعتبار امكانية تعديل الحدود الحالية ونشوء مناطق تحكمها ادارة ذاتية مثل المناطق الكردية في الشمال. كما هي مرهونة بوجود سلطة مركزية وسيادية في سوريا (قد تشمل معظم الأراضي السورية):

 

تعديلات بنيوية في النظام السياسي والتشريعي والاجتماعي:

  1. القضاء: سن قوانين قضائية صارمة تجرم التحريض الطائفي والتمييز الديني والخطاب العنصري والتفرقة بين الرجل والمرأة
  2. الاعلام: منع القنوات الفضائية المغرضة (مثال صفا و وصال اللتان تبثان من السعودية) والقنوات والصحف التي تحرض على الكراهية (مثال قناة الجزيرة القطرية وجريدة المستقبل اللبنانية)
  3. التربية: استبدال مادتي “القومية” و”الديانة” بمادة “التربية المدنية”
  4. المجتمع: اعادة تفعيل القرار القاضي بمنع الشريحة المتطرفة دينياً (ومنهم المنقبات والمتشددين من الرجال)، من التدريس في المدارس والجامعات السورية العامة والخاصة
  5. المرأة: دعم دور المرأة في المجتمع – كالتشجيع على الدراسات الجامعية وتسهيل انخراطها في سوق العمل وانشاء هيئة وطنية لحماية المرأة ضد العنف المنزلي
  6. العمل الدعوي: وضع أطر للعمل الدعوي ومنع الأعمال الدعوية والتبشيرية ما بين الطوائف (بين المسلمين والمسيحيين أو بين السنة والشيعة والعلويين والدروز والاسماعيليين)
  7. وضع حد للنمو الديموغرافي: التزايد السكاني المترافق بالبطالة يعد من أهم الوقود للتطرف الديني. أصبحت مسألة تحديد النسل ضرورة قصوة، عبر سحب الامتيازات التي تقدمها الدولة ابتداءً من الطفل الثالث، ومنها: مجانية التعليم، مجانية الطبابة وبطاقات التموين

 

الحوار والتعددية السياسية  في سوريا العلمانية:

على الصعيد السياسي، اصبح من الضروري اتخاذ خطوات مؤثرة لتوعية وتحصين الاجيال الجديدة امام هجمة الاعلام المغرض (وخاصة الفضائيات والاعلام الالكتروني ومنابر التواصل الاجتماعي الذين لعبوا دورا مؤثرا وسلبي في التحريض الطائفي وفي تفاقم ازمة الهوية). هذه المسألة يمكن التأثير عليها عبر فتح حوار منظم واعادة احياء الأحزاب العلمانية في إطار اعادة إحياء التعددية السياسية والمجتمع

اعادة تفعيل مجتمع مدني علماني يتطلب بعض الخطوات:

  1. حوار: فتح وتنظيم منابر للحوار السياسي والاجتماعي في كل المحافظات، من أجل محاربة التصحر الفكري، كبح الفكر الطائفي وضبط الخطاب السياسي في الشارع السوري ضمن اسس علمانية حرة – هذه المنابر قد تدار من قبل إعلاميين ونشطاء ومثقفين (من الموالين أو المعارضين الذين لم يرتبطوا مع جهات أو دول خارجية) أثبتوا جدارتهم خلال الأزمة السورية (وهناك أعداد كبيرة من الصحفيين والسياسيين والناشطين السوريين برزوا مؤخراً داخل وخارج سوريا وفرضوا وجودهم كمراجع من خلال شاشات التلفزة والصحف ومنابر التواصل الاجتماعية أو من خلال الدور الفعال الذي لعبوه في المصالحات التي جرت بين المعارضة المسلحة والدولة).
  2. تعديل دستوري: تعديل المادة الثالثة من الدستور – الغاء الفقرة التي تحدد دين رئيس الجمهورية
  3. الأحوال الشخصية: وضع قانون مدني للاحوال الشخصية، موازي للقوانين السارية في المحاكم المذهبية
  4. التعددية السياسية: تطبيق قانون الحزب الجديد الذي أقر في آب 2011، وهو يمنع الاحزاب الطائفية، ووضع آلية لمنع الأحزاب التي قد تكون واجهة لأحزاب طائفية. هذه الخطوة، اذا طبقت بجدية، قد تعزز التمدن وتقوي المؤسسات والتيارات المدنية على حساب الحركات المذهبية.

النقاط المذكورة اعلاه قد تساهم في اشراك الجيل الجديد الساعي الى لعب دور في الحياة العامة، وفسح المجال أمامه بإبداء رأيه من خلال منابر منظمة وضمن أطر واضحة ومحددة.

يُلقي جزء كبير من المجتمع السوري الاهتمام بدولة مدنية ديمقراطية تتجاوز النمط الديني والنمط الطائفي. ويشعر المواطن في هذه الدولة كياناً وطنياً يحميه القانون المدني بمؤسسات ديمقراطية تنعم بسلطات ثلاثة تقوم على الاستقلالية وعلى مبدأ التداول السلمي للسلطة.

ان قانون الاحزاب لا يكفي لوحده اعادة الحياة السياسية وتنمية المجتمع المدني، دون وجود آليات وأفكار (قد تتبلور في إطار الحوار المذكور اعلاه) تؤدي إلى تشكيل تيارات حزبية جديدة على أسس وطنية، لا عرقية أو دينية، بحيث يمكن لأي سوري أن ينتمي لها وأن يساهم في صقلها وتطويرها. ولكن يجب التنويه الى ان السماح بأحزاب دينية أو ذات طابع طائفي مثل جماعة الاخوان المسلمين، قد تأجج الصيغة الطائفية لانها ستخلق سابقة قد تدفع الطوائف الاخرى الى إنشاء احزاب مماثلة في المناطق حيث هم الاغلبية، بل الى المطالبة بالمحاصصة الطائفية. ويرى البعض ان الاحزاب الدينية لا يمكنها أن تكون وطنية لأنها تراعي عصبيات مذهبية وقبلية لا علاقة لها بمفهوم المواطنة.

 

تحقيق السلم الاهلي لنزع فتيل النعرات الطائفية التي نشبت خلال الحرب:

  1. حل قضية المخطوفين والمعتقلين
  2. التسريع في عودة الاجئين الى منازلهم عبر وضع آلية لاعادة اصلاح المنازل المدمرة
  3. وضع برنامج تربوي خاص لمعالجة الاثار السلبية التي خلفتها المناهج السلفية التكفيرية على الاطفال في المناطق التي سيطرت عليها المليشيات المتشددة مثال الجبهة الاسلامية (وخاصة جيشي الاسلام وأحرار الشام) وجبهة النصرة وداعش.
  4. حل النزاعات ذات الطابع العرقي أو الطائفي و عقد مصالحات في مناطق التماس مثال:
  • غوطة دمشق (جرمانا والمليحة)
  • شمال محافظة اللاذقية (سلمى وحبل التركمان وكسب)
  • بين السويداء ودرعا
  • غرب وشرق حمص
  • بين العشائر العربية والأكراد في الشمال شرق والشمال غرب
  • في القلمون – صيدنايا ومعلولا وصدد ودير عطية وعدرا

 

العمل على مصالحة وطنية جدية وإغلاق ملفات قديمة:

جزء ما تمر به سوريا سببه إهمال ملفات قديمة كقضية التأميم ومصادرة الأراضي و المصالحة الوطنية بعد حوادث الأخوان المسلمين في سبعينات وثمانينات من القرن الماضي. إن عدم فتح باب المصالحة على مصراعيه، وإعادة تحديد ما تعنيه سوريا بالنسبة لكل المواطنين، سيؤدي إلى دفن مشاعر يمكن استغلالها وإشعالها في أي وقت مستقبلاً. وإن أمل السوريين الوحيد بالبقاء كحالة متميزة في محيط عربي واسلامي متلاطم الأمواج العرقية والتشدد الدني يكمن في الحفاظ على الهوية السورية التي تسمح لأي كان بأن يشعر أنه عزيز في بلده، وأن لا أبواب موصدة في وجهه

 


ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟