لا يمكن قراءة المشهد السوري بمعزل عن الاعتبارات الاستراتيجية والجيوسياسية. مع بداية الانتفاضات في آذار 2011 كانت هناك استمرارية , مع بعض الفوارق, لأعمال الشغب التي كانت قد بدأت قبل بضعة أشهر في تونس , وأصبح من الواضح أن هناك أجندات اقليمية ودولية مهتمة باستغلال التطورات من أجل خلق سياق إقليمي جديد. ظهر في الحالة السورية وضع شبيه بالوضع الذي تم إيجاده في ليبيا. فبينما سقط القذافي بعد تدخل رسمي بشؤون البلاد, فإن سوريا كانت وما تزال معرضة لتدخل أكبر.
تتورط العديد من الدول في الأزمة السورية. من الولايات المتحدة إلى روسيا, ومن السعودية إلى إيران, لذا فإن وجود عشرات الأطراف بالموضوع السوري يثبت أهمية مصير بشار الأسد بالنسبة للعديد من الدول. لولا ذلك لما استمر الصراع السوري حتى الآن , ولم نشهد الكارثة الإنسانية التي تحدث الآن. صحيح أن الأعمال الوحشية هي حقيقة واقعة في سوريا , إلا أنها أيضا نتيجة مباشرة للمسائل المتعلقة بالأمور الجيوسياسية.
إن الممتلكات الجغرافية الاستراتيجية السورية ذات أهمية بالغة لمن يدعي السيطرة على البحر الأبيض المتوسط. للبلد أيضا أهميتها للدول التي تريد التأثير على الدول المؤثرة كالعراق وإيران. إن دراسة الوضع الاجتماعي في سوريا مهمة جدا للاقتراب , وتقييم وتوقع كيفية تطور الأمور الطائفية الإقليمية, بداية بالأمور المتعلقة بالأكراد. بالإضافة لهذه الاعتبارات فإن المعركة المباشرة هي حول توجهات النظام السوري. إن بقي الأسد في السلطة فإن ” محور الرفض ” الاقليمي الذي تشكل سوريا جزءا منه سيبقى فاعلا. وإن سقط أو حصلت أي تغيرات مهمة في التوجهات السياسية فإن الضعف سيصيب حلفاءه التقليديين – بدءا بإيران وحزب الله -. إذا نظرنا للموضوع بوجهة نظر أوسع فإن للولايات المتحدة وروسيا أمورا على المحك في سوريا. إن سقوط الأسد و/ أو حصول أي تغيرات في السياسة الإقليمية في سوريا سيؤدي غالبا إلى إيذاء روسيا , البلد الذي يرى في سوريا حليفه الأساسي والوحيد المتبقي في المنطقة. أما بالنسبة للولايات المتحدة فاضطرارها للتعامل مع نظام الأسد في المستقبل فإن ذلك لن يؤثر على مصالحها بشكل مباشر. ومع ذلك فإن هذا الوضع سيكون له تأثيره على موجوداتها الإقليمية.أظهرت التطورات في الأشهر الأخيرة خلافا شديدا في وجهات النظر بين دول الخليج والولايات المتحدة في الملف السوري. لم تتردد السعودية بإرسال إشارات غير مباشرة عن مدى تهديد الموضوع السوري والملف الإيراني للعلاقات السعودية الأميركية. من الواضح أن علاقتهم الاستراتيجية ليست بعد على حافة الانهيار . ولكن من الصعب إنكار عمق التوتر بين واشنطن والرياض.
إذا بقي بشار الأسد في السلطة للسنوات السبع القادمة , فإنه سيحتاج لوقت طويل لاستعادة السيطرة على كافة الأراضي السورية. بالإضافة لذلك فإن التوتر في العلاقات مع الأنظمة الإقليمية والأطراف العالمية الغربية ستصعب العودة للوضع السابق. ولكن ذلك لا يعني أن سوريا ستبقى دولة متوترة كما حصل في العراق في ظل حكم صدام حسين. في الواقع إن لسوريا أصولا استراتيجية الأمر الذي يجعل تحديد أساليب للمحافظة على قنوات الاتصال مفتوحة مع النظام هو ما سيقوم بترتيب العديد من نظرائه الحكوميين . من الواضح أن الكارثة الإنسانية الإقليمية والوفيات الكبيرة التي حصلت بسبب المعارك في السنوات الماضية ستدفع العديد من الأنظمة لتحميل الأسد مسؤوليتها. ولكن ذلك لا يعني اقصاء السياسة الواقعية من المعادلة. إن بقي الأسد في السلطة فإنه لن يستطيع البقاء في الحكم بدون إجراء تغييرات ملحوظة على صعيد الوضع السياسي والمؤسساتي. بالإضافة لهذه العملية الطويلة فإنه سيمضي وقت طويل قبل أن يرى في النهاية بعض الحكومات المعادية تعيد الانفتاح نحوه. على المستوى الرسمي على الأقل فإن عددا قليلا من القادة سيبدون استعدادهم لنسيان ” الماضي ” – على الأقل للحفاظ على الحد الأدنى من تمسكهم بمواقفهم – والتصرف وكأن شيئا لم يحصل في سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية. أما بشكل غير رسمي , فالتاريخ مليء بقصص كهذه حيث تم الحفاظ على قنوات سرية مع الأنظمة و/ أو الجهات التي كانت قد قوطعت رسميا. باختصار, مهما كان حكم الناس على النظام السوري ومسؤوليته , فإنهم يوما ما قد ينظرون إلى حيث تشير مصلحتهم. بالنظر للوضع الحالي, فإنه من الواضح أن عدد الدول التي تؤمن بإمكانية انهيار النظام و الجيش و/أو استبدالهم ببديل قوي وذو مصداقية يقل شيئا فشيئا. مما يدفعنا لسؤال مهم: ما هو الموقف الذي يجب على ما يدعى ” المجتمع الدولي ” اتخاذه من النظام السوري في المستقبل؟
لن يقوم الأسد بالخطوة الأولى مع أي حكومة أخرى. حتى قبل الربيع العربي فإن النظام السوري اعتاد على اعتبار أن أي بلد تريد التعامل مع دمشق عليها أن تأتي إليها و تقدم مطالبها. الآن وبعد أن فهم النظام السوري كيف يسرع منافسيه بالابتعاد عنه فإنه سيعود إلى سياسته التقليدية ” لننتظر ونرى “. العلاقات بين سوريا وحلفائها _ بدءا بإيران وحزب الله وروسيا- ستبقى جيدة بل وقد تصبح أقوى في النهاية. ولكن دمشق ستبقى جزءا من ” جبهة الممانعة الإقليمية ” التي دافعت عنها لعقود. هذا يوضح أكثر أن الكرة الآن في ملعب منافسي سوريا.
ربما سيعود المجتمع الدولي في المستقبل المنظور للطريقة التقليدية في النظر إلى المشهد السوري من خلال إيران وحزب الله, الأمر الذي لم يتوقف فعليا منذ بدء الربيع العربي. على الرغم من أن إيران ستبقى جزءا من أولويات العالم الملحة , لكنه قد يصحو يوما على واقع أن الموقف الروسي من النظام السوري ومستقبله يجب أن يؤخذ بالحسبان أيضا.
لا يمكن فهم الخصوصية الإقليمية السورية بدون فهم الحقائق الجديدة التي تعمل على إعادة صياغة العلاقات الدولية. قد تكون الحرب الباردة من الماضي , لكن المنافسة الروسية الأميركية والعمل للحصول على تأثير أكبر في الأماكن الاستراتيجية والمهمة في العالم لا تزال قائمة. تبدو سوريا هنا مثالا واضحا عن مدى حاجة واشنطن وموسكو للحفاظ عليها كما يريدون. بالحفاظ عليها فإنهم سيضعون أيديهم على بلد مهمة جدا في المعادلة الجيوسياسية الإقليمية. قبائل الشرق الأوسط, العلاقات بين الطوائف, السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ومدخله نحو مصادر المياه الرئيسية والبر, الحركات الجهادية والإسلامية, التحالفات الإقليمية السياسية, وطبعا إما تحويل المنطقة كلها إلى منطقة مؤيدة للغرب أو الحفاظ على استثناء إقليمي هي أمور لا تزال متعلقة بمصير النظام السوري.
لهذا, فإن السؤال الأهم لدى أغلب الأطراف الدولية الفاعلة هو كيفية الخروج من الفوضى السورية التي ساهموا بخلقها بدون إعطاء الانطباع أنهم يدركون انتصار الأسد. من الواضح أن معظم هذه الأطراف سيتابعون دعم الحلفاء الذين اختاروهم, لذا لا توجد ملامح للتراجع عما أصبح حرب استنزاف في سوريا. ولكن حتى هنا , فإن الوقت يبدو في صالح النظام السوري, حيث لم يبدوحتى الآن أي تلاش للدعم الهائل الذي يتلقاه من حلفائه. على العكس, فإن سوريا وحلفائها مرتبطان باستراتيجية تمنحهما القوة بشكل متبادل.
لذا فإن الاهتمام الرئيسي في المستقبل القريب هو: هل سيكون من الحكمة الاستمرار بدعم الجماعات الإسلامية و الجهادية التي لم تفعل شيئا سوى إفساد ” الثورة السورية” ؟ أم هل هناك طريقة أخرى تؤدي لإضعاف هذه الجماعات وفي الوقت نفسه تدفع النظام السوري للانفتاح بشكل أكبر على أولئك الذين لا يتفقون معه بالضرورة بما يتعلق بسياساته وتوجهاته الداخلية؟ إن معضلة الغرب وحلفائه الرئيسية هي أن النظام السوري قد أظهرمرونة غير متوقعة. بناءا على ذلك فإن الواقع المر الذي يواجهه خصوم النظام السوري هو أنه لا يمكنهم توقع تغير مهما في التوجهات السياسية والاستراتيجية للنظام. على العكس, فإن هذه الأحداث قد جعلت النظام يرتاح لضرورة المحافظة على سياساته التقليدية والإيمان أن ” الملك لا يخضع إلا لنفسه” . إن أراد السوريون الخضوع لذات المطالب التي يطالب بها خصومهم فإنهم كانوا قد فعلوا ذلك من زمن طويل. في الواقع هم بعيدون جدا عن فكرة النظر في أي تنازل كبير للغرب وحلفائه خصيصا أنها تبدأ بالمطالبة بإصرار على إنهاء النظام السوري.
العودة للتوازن في العلاقات السورية مع نظرائها الإقليميين والدوليين تبقى بعيدة عن المنال في الوقت الحالي. الفوضى السورية في حد ذاتها نوع من أنواع التوازن الذي من شأنه أن يؤدي إلى عواقب داخلية وإقليمية أكثر مأساوية في حال سقوط النظام بشكل مفاجئ. في الواقع, وهذا ما بدأ المجتمع الدولي بفهمه, يبدو أن جميع الجهات الأخرى التي راهن عليها أثبتت أنها غير نافعة إن لم تكن معاكسة لاستراتيجيتهم المضادة للأسد.
إن الطريقة الأفضل لإنهاء التداعيات المأساوية السورية على البلد والمنطقة ككل هي من خلال إنهاء دعم المنظمات المتطرفة وممارسة الضغوط الكبيرة على داعميهم . ستكون هذه بداية جيدة لإبعاد النظام السوري وداعميه عن الاستراتيجية العسكرية بمواجهة خصومه المسلحين. فقط عند الوصول لهذه المرحلة سنتمكن من الكلام عن حقبة جديدة تواجه فيها كل الأطراف المتنازعة مسؤولياتها, بدءا بالنظام السوري. طالما أن الحوارات تركز دائما على إنهاء النظام السوري بينما لا توجد استراتيجية مقبولة أو بديلة مجهزة لهذا السبب , فإن كل ما سنحصل عليه هو مجموعة من الأمنيات التي يدفع ثمنها الإنسان.
علاوة على ذلك , فإن الفوضى التي تجري في سوريا – للمفارقة – هي ضمان للمزيد من الاستقرار بالمقارنة مع ما قد يحدث إذا خسرت البلاد مؤسساتها بشكل مفاجئ. بالتمعن بالأمور, ربما يجب أن يعيد النظام السوري تقييم توجهاته الاستراتيجية الحالية في وقت ما, ولكن الوصول لهذه المرحلة يتطلب الحكمة في معرفة المواقف الإقليمية والدولية التي جعلت النظام السوري بداية يتمسك بمبادئه الاستراتيجية ذاتها طيلة عقود. لن يمكن الوصول للإصلاح في سوريا بسهولة طالما لا توجد النية للتغيير في المواقف لدى ” الطرف الآخر “. بالكاد ستنخرط سوريا في نظام استراتيجي جذري بديل طالما أن ما يتم اقتراحه لا يضمن سلامة أراضيها واستعادة الأراضي المحتلة. لن ينتهي الخلاف والعداء في وقت قريب. ولكن سيكون أمرا جيدا إن تصرفت جميع الأطراف المتورطة بالحرب السورية بطريقة تحافظ على الاعتبارات الاستراتيجية للسياسيين وفي الوقت نفسه تحافظ على الناس بدءا بالنساء والأطفال. يجب الحفاظ على البعد الإنساني في السياق السوري, بغض النظر عمن من حلفاء الولايات المتحدة وروسيا سيثبت أنه على حق في النهاية.
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟