تعود بعض جذور الأزمة الحالية في سوريا إلى طرق عمل النظام التعليمي السوري منذ الاستقلال. بشكل خاص, السوريون المولودون حوالي عام 1963- العام الذي تولى فيه حزب البعث مقاليد السلطة – و هم الآن في عقدهم السادس. فبعد أن كان التعداد السكاني حوالي 5 مليون في عام 1963, ولد أكثر من 17 مليون شخص وتربوا وتعلموا ف ظل عقيدة حزب البعث ونظامه التعليمي. لعبت عقيدة القومية العربية والاشتراكية ومناهضة الإمبريالية دورا كبيرا في تطوير الفكر لدى الغالبية العظمى من السكان في سوريا اليوم.
من المنصف أن نقول أن التعليم الشامل يعد أحد أهم الإنجازات في سوريا وتحديدا منذ عام 1963 . في الواقع , تتمتع سوريا بأعلى معدل لمحو الأمية في العالم العربي – بعد تحقيق نسبة أكثر من 90% محو الأمية للشباب الذكور والإناث.
حصل النظام التعليمي في سوريا على نتائج مبهرة في جوانب عديدة, لكنه في الوقت ذاته فشل في جوانب أخرى وكانت له نتائج كارثية تتجلى في الازمة التي تشهدها سوريا اليوم.
التعليم ضد الهندسة الاجتماعية :
في حين كان حزب البعث التقدمي يدعو بجدية ويمارس ويعلم برنامجا علمانيا, فإنه و مع ذلك, قد فشل في قياس مدى نجاح مثل هذا البرنامج, وعلاوة على ذلك, فإنه قد فشل في تصحيح مسار عمله نتيجة لنقص في مقاييس الأداء لقياس التقدم الذي يحرزه.
مكونات النجاح في النظام التعليمي السوري :
نظام تعليمي عالمي مجاني ( إجباري للمرحلة الابتدائية ) متاح لجميع الذكور والإناث في سوريا. تعليم عالي (جامعة ودراسات عليا ) وهو أيضا مجاني. ساهمت هذه السياسة في الوصول لأحد أعلى معدلات محو الأمية في الشرق الأوسط.
نظام تعليم علماني يطرح صورة دقيقة وموضوعية للمجتمع العربي المتنوع بكافة مكوناته الطائفية والعرقية. تبرز كتب التاريخ النجاحات العربية والإسلامية فيما تركز على دور الدين في الاكتشاف والمعرفة بدلا عن الدور المحافظ المتخلف.
التركيز الناجح على العلوم الطبيعية والتطبيقية أنتج العديد من الأطباء والعلماء والفيزيائيين الرائدين, والعديد من العلماء المبدعين في كل أنحاء العالم.
ثمة تركيز شديد على العلوم الإنسانية والفنون الجميلة. وبشكل خاص, تم افتتاح العديد من معاهد الفنون الجميلة في كافة أنحاء سوريا. أدى ذلك إلى حصول الفنانين السوريين على شهرة عالمية ووصول الفنون الجميلة السورية إلى أعلى المراتب في الشرق الأوسط وآسيا.
تركيز شديد على اللغة العربية كلغة للكرامة الوطنية. وقد نجحت الجهود المبذولة من أجل تعريب النظام التعليمي بأكمله في تحديث اللغة العربية وجعل العلوم والآداب الأجنبية متاحة للملايين بلغتهم العربية الأم.
مكونات الفشل
نفس الأسباب التي ساهمت بنجاحات النظام التعليمي السوري, ساهمت أيضا بفشله. بعض الأسباب هي :
لم يحصل معظم المعلمين العاملين في القطاع العام على تأهيل وتدريب صحيح بطرق التعليم الحديثة. وقد أدى ذلك إلى تقويض الأهداف ذاتها التي كانوا يحاولون تحقيقها.
أدى التركيز على اللغة العربية إلى تركيز ” داخلي ” – وبالتالي حرمان العديد من العقول الشابة من الوصول والاستفادة من المصادر الأجنبية – كون اللغة الإنكليزية أصبحت هي اللغة الرائدة للعلوم والتكنولوجيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده. إن الفشل في تعليم اللغات الأجنبية ومواجهة الشركات والأسواق العالمية أجبر العديد من السوريين المغتربين بقبول أجور قليلة وفرص عمل بسيطة عند هجرتهم للبحث عن فرص جديدة. مع أن السوريين يعدون من أذكى الشعوب الشرق أوسطية إلا أن وظائفهم في أسواق العمل لا تتوافق مع مستوى ذكائهم وتوقهم للتعلم والنجاح. علاوة على ذلك, فإن هذا الأمر قد ساهم في الطبيعة المتطرفة للأزمة السورية الحالية. حيث وجد السوريون الذين لم يتم تحضيرهم بشكل جيد للعمل والاندماج بالسوق العالمية أنفسهم فريسة للأيديولوجيات المتطرفة.
على سبيل المثال, بالإضافة للتضخم السكاني الهائل في سوريا وجد الملايين من السوريين أنفسهم بتعليم جيد ولكن بفرص قليلة لاستخدام هذا التعليم. دفع هذا الأمر الملايين من السوريين للبحث عن فرص عمل ومهن في أماكن أخرى. وبما أن تعلم اللغات الأجنبية كان عائقا أمام العديد من الشباب السوريين, لجأ معظمهم إلى مجتمعات متخلفة كالمملكة العربية السعودية. بعد سنوات من العمل في مثل هذه المجتمعات غير المتحررة وغير العلمانية, استبدل التعليم العلماني السوري بسرعة بطرق الحياة الطائفية التي تركز على الدين باعتباره عامل النجاح الوحيد المهم في حياة الفرد.
بالإضافة إلى ذلك, فإن الخدمة العسكرية الإلزامية لمدة تزيد عن سنتين ساهمت سلبا في ظهور التفكير النقدي التحرري في عقول الشبان السوريين . ساهمت الظروف القاسية والمهينة التي تعرض لها العديد من المجندين الشباب خلال الخدمة العسكرية في فقدان النتاج الفكري والتفكير النقدي- خصيصا لدى أبناء المناطق الفقيرة. في الوقت الذي ينهون فيه خدمتهم العسكرية الإلزامية يجدون أنفسهم بدون أية مهارات مطلوبة في السوق العالمية, مما يدفعهم للبحث عن وظائف ذات أجور منخفضة في دول الخليج أو الانضمام إلى صفوف البطالة في سوريا. هذه الظروف تشكل مناطق خصبة لانتشار الفساد والأيديولوجيات المتطرفة.
قد يكون أحد أسوأ العواقب وأسباب الفشل في النظام التعليمي الشامل في سوريا هو التركيز لمدة تزيد على ستين عاما على القومية العربية بدلا عن المواطنة السورية. عندما فشلت القومية العربية في تحقيق أهدافها لم تكن المواطنة السورية قد نضجت بشكل كاف لملء الفجوة. أدى ذلك إلى عواقب وخيمة في أذهان ملايين السوريين الذين لم ينضج لديهم تعريف سوريا بل تجسد في أسماء شخصيات بدلا عن مجتمع غني ودولة قومية.
بالإضافة إلى ذلك, فقد حاولت السلطات السورية هندسة المجتمع اجتماعيا بشكل علماني بدون أن تكون مجهزة بشكل جيد للقيام بمهمة كهذه في المقام الأول. المدرسين والمعلمين وزعماء العوائل والمجتمع لم يكونوا مجهزين بشكل كاف لغرس الأيديولوجية العلمانية في عقول طلابهم. كانت تقنيات التعليم الحديثة بالكاد متاحة للمعلمين وكان اطلاعهم على أمثلة مماثلة في أنحاء العالم نادرا. لذا فإن التعاليم العلمانية التحررية كانت في أحسن الأحوال غير مكتملة, وكان غالبا من السهل تقويضها من قبل التيارات العلمانية والإسلامية التي كانت ثائرة في المنطقة برمتها.
ينبغي لنا الإشارة لاسم وزارة التعليم في سوريا. كانت تدعى في السابق ( وزارة التربية والتعليم ), تم تغيير الاسم فيما بعد وحذف كلمة ” التعليم “. كلفت هذه المؤسسة التي تديرها الحكومة بمهمة ” التربية ” بينما يجب أن تكون هذه المهمة من واجب العائلة وليس الحكومة.
المجتمعات المتحررة
إن دور الحكومة في المجتمع المتحرر هو أولا وقبل كل شيء, حماية الحريات الفردية من انتهاكات الحكومة, الدين, القبيلة أو العائلة. إذا حاول أي كيان الحد من أو انتهاك الحقوق الفردية الأساسية, فإن الحكومة هي المنفذ النهائي للقانون التحرري لحماية هذه الحقوق.
ولكن, لوحظ أن الحكومات المركزية القوية في جميع أنحاء العالم تحد, أو غالبا ما تنتهك الحقوق الفردية الاساسية. يحصل هذا تحت شعار الأمن القومي, الأمن الداخلي أو التهديدات الخارجية.
هناك علاقة عكسية بين الحكومات المركزية القوية والحريات المدنية. تشعر الحكومات القوية بالحاجة لانتهاك والحد من الحريات الفردية من أجل المصالح الوطنية الشاملة.
يخلط الجميع بين المبدأ الجوهري للحريات الدستورية ومبدأ اختيار وانتخاب الحكومة. لذلك, فإن الحريات الدستورية والديمقراطية التحررية لا تدور حول الانتخابات بل حول دور الحكومة باعتبارها حامية لحقوق الإنسان ومنفذة للقانون.
الطريق إلى الأمام
يلعب التعليم دورا محوريا ويشكل عاملا حاسما للنجاح في إنتاج جيل من المواطنين المتعلمين الذين من شأنهم تأسيس مجتمع تحرري وديمقراطي. إن وجود طبقة وسطى قوية, متعلمة ومتمكنة هو شرط مسبق عميق لظهور الديمقراطية التحررية.
لا يبدأ التعليم وينتهي في الصفوف الدراسية. هو نظام متكامل للتعلم والتواصل يشمل جميع جوانب المجتمع. للوصول لنظام تعليمي عالي الأداء, يجب إنشاء ما يلي في سوريا الحديثة :
1- صياغة وتحديد هدف التعليم وليس التربية . يجب أن يكون الهدف هو تعليم, نشر, وتسليط الضور على نظام تعليمي يعطي سوريا قيمتها مع كافة أقلياتها وأكثرياتها العرقية. تمجيد التنوع السوري وتشجيع التفكير النقدي. والتأكيد على الحريات الفردية والمدنية.
2- وضع المبادرات الاستراتيجية التعليمية لدعم الهدف المذكور أعلاه :
أ-الحصول على مساعدة خبراء التعليم المشهورين من جميع أنحاء العالم.
ب- بناء المناهج التعليمية التي تقدر وتتحدى التفكير النقدي, ترسم مواقع القوة في المجتمع التحرري, وكيف يتم تكليف الحكومة بحماية الحريات الفردية. تحديد وبناء ونشر مبدأ المواطنة السورية وانتماؤها للمواطنة العربية. لا ينبغي أبدا قمع المواطنة السورية على حساب المواطنة العربية الفضفاضة التعريف.
ج- التركيز على المواطنة لا على القومية. التركيز على رسم دور الفرد كمواطن في سوريا لا كحالم بالقومية. التركيز على الواقعية لا على المثالية.
د- الابتعاد عن التلقين المباشر. يجب استخدام الطرق غير المباشرة حيث يكون واضحا للجميع أن من الأفضل لهم البقاء داخل النظام التحرري على البقاء خارجه.
ه- لا تحارب الأفكار الطائفية ما لم تنتهك القانون. دع مجالا للأفكار المتحررة لتشويهها .
و- نعيش اقتصادا عالميا. تعليم اللغات الأجنبية, إعداد السوريين للتصدي لعالم تسوده العولمة, وترك السياسة والتلقين الحرفي خارج الفصول الدراسية. لا داع لتعليم ” الاشتراكية القومية ” في مدارس سوريا وجامعاتها. هذا الأسلوب التعليمي متأثر بشكل كبير بالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية. وقد انتهى وقت محاولات فاشلة كهذه.
الملخص
يتجذر النظام التعليمي في سوريا بعمق في القومية العربية الحسنة النية وفي نهوض العرب كمواطنين متساوين في العالم. ومع ذلك فإن الانفجار السكاني في سوريا, انعدام الفرص, وجود كادر تعليمي غير مجهز, و سلسلة من الحروب الوجودية في سوريا قد ساهمت سلبا وأعاقت تقدم نظام لإنتاج أجيال تحررية علمانية في سوريا. وهناك حاجة لإطلاق إصلاحات شاملة
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟