تشكل الدولة الوجه السياسي والحقوقي للمجتمع. تحدد تركيبة الدولة ومأسستها في الدستور الذي يكون الركن الأساسي لهذه الدولة فهو يحدد شكل الحكم ويوضح حقوق وواجبات المواطنين الأعضاء. وبما أن الدولة تكون المظهر السياسي والحقوقي للمجتمع فشكل الدستور يدل دائماً على مدى تقدم أو تخلف هذا المجتمع. هل يسمح الدستور بحياة سياسية منفتحة وحرة لكي يتمكن كل مواطن من الإشتراك بالصراع لتحقيق الأفضل للمجتمع؟ هل يساوي الدستور بين كل المواطنين بغض النظر عن دينهم أو أصلهم الإثني أو جنسهم؟ هل ينشئ الدستور مؤسسات تمثل السلطات الثلاث الأساسية مع فصلٍ تام بينها؟ هل يحدد الدستور حدود الوطن بناءً على فهمٍ واضح للوحدة الجغرافية للبيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة؟ كل هذه الأسئلة يجب أن تطرح عندما نقوم بتقييم أي دستور موجود أو بصياغة أي دستور جديد.
مفهوم المواطنة
من أهم مرتكزات أي دستور يكون مدى تطابقها مع مفهوم المواطنة. هذا المفهوم كان دائماً من الأشياء التي كانت تفقدها دساتيرنا. فالمواطنة تعني المساواة الكاملة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. حسب مفهوم المواطنة، يجب أن ينظر القانون وأن تنظر جميع مؤسسات الدولة إلى كل مواطن فقط كمواطن عضو في هذه الدولة دون أي إعتبار لأصله الديني أو الإثني أو لجنسه. هذا يعني أن يجب أن تكون محفوظة جميع الحقوق وجميع الواجبات لكل مواطن وأن يتاح له المجال لممارسة هذه الحقوق والواجبات. ويعني أيضاً أن جميع القوانين تطبق بشكلٍ منتظم على جميع المواطنين.
هنا علينا أن نقسم المواطنة في الدستور إلى قسمين. القسم الأول يتعاطى مع المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والقسم الثاني يتعاطى مع تطبيق القوانين بشكلٍ منتظم على جميع المواطنين. في مسألة المساواة، لا يمكن أن تكون المساواة متوفرة بحال وجود أي تمييز بين المواطنين. يوجد التمييز عندما تكون بعض الحقوق أو الواجبات متوفرة لفئات أو أشخاص معينة وغير متوفرة لفئات أو أشخاص آخرين، فمثلاً عندما يحدد الدستور دين أو مذهب رئيس الدولة فهذا يعني أن حق الترشح لمنصب الرئاسة غير متوفر لأبناء الشعب الذين يؤمنون بدين أو مذهب غير الذي يحدده الدستور للرئيس. فنص كهذا يشكل تمييز واضح وصارخ بين أبناء المجتمع الواحد فيتعامل مع قسم منهم وكأنهم مواطنين درجة ثانية. وهذا يزيد التفسخ والتشرذم في المجتمع ويخلق حواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب يجب ازالتها.
أما في ما يتعلق بتطبيق القوانين بشكلٍ منتظم، فأي دستور متقدم يجب أن لا يسمح بإنشاء قوانين مختلفة لفئات الأمة المتعددة. تطلب المواطنة قانون مدني موحد يطبق على جميع أبناء الشعب لأن الدولة الحديثة لا تنظر إلى مواطنيها غير أنهم متساوين بشكلٍ تام. فعندما نسمح في بلادنا بإنشاء قوانين أحوال شخصية طوائفية تسمح لكل طائفة أن يكون لها نظام خاص بها كمسائل الزواج والطلاق والوراثة، إلخ، نكون قد ساهمنا بتحويل مجتمعنا إلى مجتمع مفتت وغير منظم ومقسم إلى امارات طائفية يليق بعهود القرون الوسطى. القانون هو من أهم مظاهر تطور وتحضر المجتمع ويشكل الدستور الركن الأساسي لتنظيم القوانين فمن غير المعقول أن يسمح دستور حديث ومعاصر، يشكل المظهر القانوني والحقوقي لمجتمع راقي، بإنشاء حالة تخلف وببناء عقلية بدائية.
فصل الدين عن الدولة
أحد أهم ميزات الدستور الحديث والدولة الحديثة هو الفصل الكلي بين المؤسسات الدينية والسلطات الزمنية. فكرة الدولة الدينية أو الدولة التي تخلط بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية والقضائية منافية لمفهوم المواطنة التي اساسها الوحدة القومية. الوحدة القومية لا تتحقق عندما يكون لكل مجموعة دينية مراجعها الخاصة. فهذه الحالة تؤدي إلى إنشاء جماعات داخل المجتمع الواحد لها مصالح متضاربة. ليس الهدف هنا محاربة الدين على الإطلاق. فالدين بصفته الروحية الحقيقية هو تعبير عن القيم المجتمعية، وحق ممارسة الإيمان الديني يجب أن يكون محفوظاً لكل المواطنين. الهدف هو الحفاظ على الوحدة القومية ضمن دولة مدنية وعدم الخلط بين المسائل الروحية الماورائية والمسائل السياسية والقضائية.
مبدأ فصل السلطات
لكي نمنع تسلط أي طرف على الدولة وجعلها خاضعة لقراراته المنفردة يجب تقسيم نظام الحكم إلى سلطات مستقلة تكون منفصلة تماماً عن بعضها البعض. في أكثرية الدول المتمدنة يكون نظام الحكم مقسم إلى ثلاث سلطات وهي التنفيذية والتشريعية والقضائية. وكل من هذه السلطات لها دورها في تسيير مؤسسات الدولة بشكلٍ منهجي وتنظيم المجتمع والحفاظ على حقوق وواجبات جميع المواطنين. ولكن الخلط بين هذه السلطات أو السماح لأيٍ منها للطغيان على السلطات الأخرى يخلق حالة تسلطية تعيق العمل المؤسساتي الصحيح وتمنع إنتشار العدل والعدالة. ومبدأ فصل السلطات هو شرط أساسي لإنشاء قضاء مستقل لا يكون مرتبطاً بطرف سياسي معين أو يكون تحت امرة شخص أو مجموعة معينة تجعل منه وسيلة لخدمة مصالح خصوصية بدل أن تكون مؤسسة محترفة تقوم بمحاسبة الجميع بشكلٍ عادل وبتطبيق العدالة وحماية المواطنين والحفاظ على حقوقهم.
التغيير البنيوي الجذري العميق لبنية نظام الحكم
بنية النظام الحالي الذي لم ينظر إلى أبناء الشعب كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ولم يفصل بين الدين والدولة بشكلٍ صحيح، ولم يسمح بإنشاء حياة سياسية حقيقية تفتح المجال لجميع المواطنين بالمشاركة بها، ولم تفصل السلطات، هي المسؤولة عن تكريس أوضاع داخل البلد أدت إلى قيام حالات تسلطية وأفكار طائفية واثنية وعشائرية وفئوية هددت وحدة مجتمعنا وسلامة أرضنا وكانت سبباً أساسياً لإنفجار أزمة داخلية سمحت لقوى خارجية أن تستغل الوضع وأن تشن حرباً هدفه تدمير الدولة وتفتيت المجتمع الواحد. ولهذا السبب علينا أن نشارك جميعاً بإنشاء بنية نظام سياسي يعبر عن طموحات الشعب السوري ويلبي مطالبه المحقة. ومن الخطوات الأساسية لتغيير بنية النظام هو صياغة دستور جديد يرسم سياسة الدولة وتركيبة نظام الحكم. ولكي يتم بنجاح المشروع ويكون على المستوى المطلوب، يجب السير به بطريقةٍ تفتح المجال لجميع شرائح المجتمع للمشاركة به، إبتداءً من تشكيل لجنة صياغة الدستور وصولاً إلى مضمون النص الدستوري.
تشكيل لجنة صيانة الدستور ودور المعارضة
كما ذكرنا أعلاه يجب أن يشارك في صيانة الدستور الجديد جميع شرائح المجتمع السوري لكي يكون معبراً عن طموحات الشعب السوري. وعلى بعض الفئات والأحزاب التي تعتبر نفسها “معارضة” أن تتحمل مسؤولياتها وأن تلعب دوراً بناءً في إنشاء بنية نظام سياسي جديد يلبي مطالب الشعب السوري. فلا يكفي أن تفتح الدولة المجال لجميع القوى الفاعلة على الأرض إذا كانت بعض هذه القوى ترفض أن تقوم بواجباتها تجاه شعبها، وأن تستمر في سياسة المقاطعة الغير بناءة والتي ساهمت أيضاً بإطالة الأزمة وتفاقمها. وطبعاً نحن لا نعني أن الدستور الجديد يجب أن يصاغ بشكل توافقي بين فريق “معارضة” وفريق “موالات”. لا تنشأ الدساتير بهذه الطريقة. والنظر إلى المجتمع السوري بأنه فريق “معارضة” وفريق “موالات” لا يعبر أصلاً عن حقيقة المجتمع السوري الواحد. يجب أن تتم صياغة الدستور الجديد بطريقةٍ علمية وموضوعية. والفريق الذي سيكلف بهذا العمل يجب أن يكون من المتخصصين في القانون والتشريع وبناء الدولة وأن يشمل جميع القوى أو الأحزاب السياسية الموجودة على الأرض.
وكلمة “معارضة” بمعناها الصحيح هي فقط وصف سياسي لموقع بعض القوى السياسية التي يمكن أن تكون لها نظرة مختلفة في بعض المجالات لبنية الدولة أو لسياسة الحكومة المعتمدة عن نظرة الفئة الحاكمة. أما في موضوع صياغة الدستور فيمكن لبعض القوى التي تعتبر نفسها “معارضة” أن تتفق في مواضيع عديدة مع بعض الأطراف التي تعتبر نفسها “موالاة” أو يمكن أن تختلف بعض أطراف “المعارضة” مع أطراف أخرى معارضة أو بعض أطراف “الموالاة” مع أطراف أخرى موالية. لذلك تناول مسألة صياغة الدستور بعقلية “معارضة” و-“موالات” لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة. فعلينا أن نعمل جميعاً لمصلحة سورية التي هي فوق كل مصلحة أخرى وأن نقوم بواجباتنا بدقة وبعزيمةٍ صادقة. إذا كنا نريد فعلاً الخروج من هذه الأزمة، علينا أن نبدأ عملية سياسية تنتج تغييراً بنيوياً جذرياً عميقاً لبنية النظام السياسي الحالي وننشئ نظاماً جديداً يعبر عن طموحات الشعب السوري.
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟