ما تمر به سوريا الآن عائد إلى تداعيات عالمٍ يتشقق و يتحضر للانهيار، عالمٍ يحاول كل طرف فيه النجاة منفرداً، عالمٍ تعتقد بعض أطرافه أنها ستنتهي إلى إبادة بقية الأطراف أو استعبادها على الأقل، عالمٍ يتحضر سريعاً لحرب عالمية ثالثة سيخرج من رحمها نظام جديد لكن بعد أن يدفع البشر – كما جرت العادة – ثمن معرفتهم الجديدة ضحايا و دماء ودمار.
ربما تكون الحرب التحضيرية التي تعاني منها سوريا فرصة نادرة و ثمينة لإعادة تريب الأوراق الداخلية و تهيئة المنطقة لاستقبال الموجات المدمرة القادمة و النجاة منها بأقل الخسائر الممكنة.
تمتاز السياسة السورية الخارجية بانعدام البوصلة و التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى و هي حال كل دول العالم الصغيرة التي تحاول النجاة بين أقدام العمالقة و هي حال دول كانت تُعتبر قبل أعوام قليلة دول عظمى و رأينا أنها تنهار و تنسحب تدريجياً من دائرة الفعل و القرار، و هي حال من يظن نفسه أنه قادر على النجاة من حركة التاريخ و الاستمرار في نشر الموت و الدمار دون التأثر بردّ الفعل المدمر الذي يولده الاستمرار في هذه السياسات، نسي العالم بسرعة التجربة النازية و هو في الطريق لإعادة إنتاج الحروب التي رافقتها لكن تحت ذرائع و مبررات أخرى.
ما يهمنا هنا هو ترتيب بيتنا الداخلي لمقاومة هذه الأمواج المتوقعة بدلاً من الاستغراق في تحليل نظرية المؤامرة و نعتقد جازمين أن المؤسسات التقليدية الحاكمة الآن و التي تفكر بطريقة الخطوة خطوة لن تستطيع أن تتصدى وحدها لهذه المسائل الشائكة لذلك نرى أنه يجب العمل على توسيع دائرة التفكير لتشمل المجتمع بأكمله عبر الحث على تشكيل مراكز الدراسات المستقلة التي تطرح تصوراتها المستقبلية و يرى كل منها القضايا المصيرية من زاوية مختلفة وصولاً لصياغة مبادئ و آليات عملية قابلة للتطبيق تستطيع امتصاص الآثار المدمرة للحروب القادمة و تأثيرها الخطير على المنظومات الحيوية الضرورية لبقاء الإنسان على قيد الحياة.
ما سنحاول عرضه في الفقرات القادمة هو مساهمة و تحريض على إطلاق عملية تبادل الرؤى حول المستقبل الذي ينتظرنا و حول كيفية البقاء على قيد الحياة بأقل الخسائر الممكنة إلى أن يتم العبور إلى عالم مستقر نسبياً و قادر على تأمين متطلبات استمرار الحياة.
إن السياسات التي تمت صياغتها من أطراف سيطرت على قرار المجتمع و منعت كل التفاعلات الداخلية التي تخالف توجهاتها أضعفت المناعة السورية و شلت الدفاعات الحيوية الذاتية للمجتمع السوري، فقد تلقى السوريون الضربات من جامعة عربية آمنوا بمشروعية وجودها و باتفاق أعضائها على الحد الأدنى من الثوابت القومية، و تلقوا الضربة من وهم التقارب التركي السوري و فتح البلاد على مصراعيها أمام الغزو الثقافي و الاقتصادي ولا حقاً العسكري، كما تم تحويل المقاومة اللبنانية من مقاومة جامعة موحدة إلى مقاومة شيعية و فيما بعد رأينا تحول الصراع القومي إلى صراع طائفي و هدر ما تم ربحه في المراحل الأولى أمام عظيم الخسائر التي نتجت عن هذا التحول.
الاستفراد بالقرارات الاقتصادية و الثقافية و رسم السياسات الخارجية التي تخدم طبقة معينة في المجتمع السوري و تهمش بقية الطبقات أضعف مناعة سوريا داخلياً و خارجياً و سهل إطلاق عملية تدميرها من الداخل و استغلال الاستياء الواسع الذي تركته هذه السياسيات المدمرة لدفع آليات الدمار الذاتي إلى حدها الأقصى.
متاهة العلاقات الخارجية
يُشكل الخليط البشري في سوريا الطبيعية مزيجاً حضارياً يختزن في داخله تاريخاً مليئاً بالتناقضات و الصراعات الاقتصادية و الحضارية، هو تفاعل ثقافات الغزاة مع ثقافة شعوب المنطقة، تفاعل لم يصل إلى مرحلة الاستقرار و بقيت أصداء الحروب القديمة متمثلة في وعيه الجمعي، و عند أي نقطة ضعف ينفجر هذا المخزون محاولاً إعادة استكمال عمل قديم لم يتم.
إن رسم السياسات الخارجية المستقبلية بمعزل عن رؤية الأخطار المحدقة بشعوب سوريا الطبيعية على أسس المصالح الاقتصادية و تاريخ النزاعات القديمة التي لم تنتهِ بعد سوف يقود إلى إعادة دفع الثمن الباهظ بشرياً و مادياً و الذي مازلنا في منتصف فصوله الآن.
لقد تم تأسيس السياسات الخارجية على أسس عاطفية و أحلام قومية لم تراعِ الحد الأدنى من الواقعية المطلوبة و المستندة إلى سجل تاريخي طويل من التصرفات و السلوك النمطي لأقوام تدفعها ظروفها الاقتصادية و البيئية لأن تكون معادية لأسلوب حياة سكان سوريا الطبيعية.
مدخل التغيير السياسي المطلوب هو دراسة الأخطار المحدقة بشعوب المنطقة بدءاً من توقع الأزمات اللاحقة لنضوب النفط و مأساة الشعوب المعتمدة عليه و التي ستنتقل بفعل الضغط البيئي إلى تأمين حياتها عبر الغزو شمالاً، مروراً باستيعاب أحلام الشمال و استعدادهم المعلن لاستخدام سلاح المياه، و انتهاء بالغرب الذي يحتاج السيطرة على هذه المنطقة لتأمين إمدادات الطاقة و خنق أي احتمال لصعود ثقافات الشرق الأقصى. دون بناء سياسات تراعي العوامل الآنفة الذكر و غيرها مما لم نذكر ستظل السياسات السورية الخارجية تشبه الجري سريعاً في متاهة دون أي أمل في الخروج منها بينما ما نحتاجه هو عين في السماء ترى المتاهة كاملة من الأعلى و ترسم طريقاً للخروج بهدوء و بخطوات محسوبة بدقة.
قوس الحضارات القديمة
يمتد هذا القوس من إيران إلى مصر مروراً بالعراق و سوريا، و بما أن النار قد اشتعلت تالياً في سوريا بعد العراق فإن على الدولتين المتبقيتين أن تستعدا جيداً للحرب، لم تعد الحروب تقوم على إرسال القوات الأجنبية بل على تمويل أطراف داخلية و مرتزقة دوليين و هم الذين يتكفلون بإنجاز الهدف المطلوب، رأينا في سوريا مثالاً واضحاً عن الاستعدادات المسبقة للتدخل الخارجي حيث تم مهاجمة الدفاعات الجوية السورية بأوامر من جهات معادية قبل وضوح أمر التدخل الغربي في سوريا و في زمن (التظاهرات السلمية! و الجيش الحر الذي يحميها) و نعرف تماماً أن الصورايخ أرض – جو لا تصيب إلا المتظاهرين الطائرين أو المتظاهرين الذين ينفذون أجندة خارجية، الاستعداد للحرب القادمة يتطلب علاجاً سريعاً و حاسماً للتناقضات الاجتماعية القائمة بحيث يتم خفض التوترات الطبقية و العرقية و القومية و الدينية إلى أدنى مستوى ممكن، كما يتطلب العمل على تفعيل التنسيق بين مركبات هذا القوس لمنع مخاطر تفتيته و تدميره عبر استغلال الأعداء التقليدين له في المنظومات الرعوية المتاخمة لحدوده و التي يتناقض معها تاريخياً منذ آلاف الأعوام.
لكي يكتمل عقد قوس الحضارات القديمة يجب العمل بشكل مكثف على تحقيق أفضل اتحاد ممكن بين مكونات سوريا الطبيعية و العراق، عقد العراق – سوريا – لبنان يمكن أن يتحقق بفعل الأخطار الذي يجب أن يتم استغلالها كقوة دافعة باتجاه تكامله و بالتالي تحويل الطاقة التي صنعتها القوى الغربية لتفتيته إلى طاقة فعالة إيجابية لدمج مكوناته، الأزمة تصهر الجميع في السؤال الوجودي (نكون أو لا نكون) و في هذه الظروف تخفت التناقضات التقليدية أمام مفهوم استمرار الحياة و النجاة و تميل المجموعات المهددة وجودياً إلى التجمع بشكل غريزي، يجب استغلال هذه القوة الدافعة جيداً و إحداث التغيرات السياسية المطلوبة في فكر و آليات عمل الطبقات الحاكمة لجعلها تتقبل المشاركة تحت تأثير التهديد نفسه، بالنسبة للأردن سيبقى متأرجحاً و يحاول إرضاء الجميع و هذا ناجم عن تاريخ تشكله و الأسس الذي قام عليها و سوف يحتاج بعض الوقت قبل أن تظهر فيه تغيرات جذرية و عميقة بل و حادة نتيجة ثقالة الكتلة المجاورة له (في حال تحقق أي نوع من الاتحاد بين مكوناتها) و خاصة من الناحية الاقتصادية و التي يحتاجها الأردن بشدة للبقاء على قيد الحياة، و للأسف لا نرى إمكانية لتحقيق التقارب مع وطنه الأم إلا بعد تصدع البنى الحاكمة له حالياً، و هو أمر سيتم ذاتياً نتيجة التطورات التي ستتسارع بفعل قوانين الحرب في المنطقة.
يجب التنبه إلى خطر الذوبان في مشاريع الجناح الشرقي (إيران) أو الجناح الغربي (مصر) حيث سيولد هذا أي تقارب غير متوازن المخاوف و الأطماع التاريخية القديمة و سيؤدي إلى تفكك هذا القوس، المطلوب المحافظة على مسافة واضحة و على أسلوب حياة داخلي متمايز عن ذلك الموجود في الجناحين.
الصراع الشيعي السني
إن تحويل المقاومة اللبنانية من مقاومة حزبية تعددت مكوناتها و غلبت عليها المكونات العلمانية إلى مقاومة دينية شيعية ساهم في تقدم المشروع السرطاني الذي يسعى إلى استبدال الصراع مع الاستعمار الغربي وواجهته إسرائيل بالصراع بين أكبر كتلتين بشريتين موجودتين في المنطقة حيث تصبح إسرائيل آمنة نسبياً و تستمر صفقات مبيعات الأسلحة إضافة إلى مبيعات التجهيزات و المواد اللازمة لإعادة إعمار ما تخرب.
لا يمكن إهانة المكونات الفكرية السنية عبر تعويم الفكر الذي يتناقض معها و تحويله إلى مقاومة متماسكة تستحق الاحترام ولا يمكن التباهي بالتقدم العلمي لإيران -العدو القومي التاريخي للمجموعات العربية الرعوية- دون إثارة كمية هائلة من طاقة الدمار و الكره المختزن في الوعي الجمعي ليس بفعل ذكريات التناقضات الدينية الحديثة نسبياً بل بفعل الذكريات الأقدم التي ورثتها الجمهورية الإيرانية عن الامبرطورية الفارسية.
لقد اختبرت شعوب المنطقة هذا الصراع طيلة أكثر من 1400 عام و لم ينته إلى أي نتيجة، إن إعادة إحيائه لم تكن مسؤولية القوى الغربية و رأس حربتها إسرائيل بل كانت مسؤولية من دمر كل الدفاعات الحيوية التي منعت انتشار الفكر الديني في المنطقة و أقصد كافة التنظيمات السياسية التي تم وأدها عملياً في فترة حكم الحزب الواحد في العراق و سوريا و التي يُفترض بها أن تكون منبع التغيير السياسي و الاجتماعي في المنطقة، ما تم ربحه من استقرار في حقبة محددة و استندت عليه القوى الحاكمة لتبرير قمعها لمخالفيها تم دفعه أضعافاً مضاعفة خسائراً و دماراً اجتماعياً و ثقافياً فيما بعد.
مخاطر القبائل الشمالية و الجنوبية
سيجعل نضوب النفط أرض الجنوب (الخليج العربي) غير قادرة على دعم مقومات الحياة الدنيا لجميع سكانها، التزايد السكاني و التطور الاقتصادي و العمراني اعتمد بشدة على استهلاك طاقة تراكمت خلال ملايين السنوات و نفاذها سيشكل صدمة مدمرة و خاصة على صعيد تأمين مقومات استمرار الحياة ، لذلك نرى أنه سوف تقوم هذا القبائل بضغط الحاجات الحيوية إلى اللجوء إلى الغزو شمالاً و ستستعمل بكثافة السلاح الذي توصلت إليه تاريخياً من أجل السيطرة الاقتصادية على محيطها و الذي يعفيها من بذل الجهد المطلوب لعملية صنع الحضارة و التكيف عددياً مع البيئة المحيطة بها، إن سلاحها الأمضى الذي قاد إلى استعباد بقية الأمم و تحويلها إلى مزارع تعود خيراتها إلى المركز هو الدين، لذلك قامت هذه الشعوب بتطوير مذهب متشدد خاص بها يميزها عن شعوب المنطقة و يسمح لها بإعادة التاريخ إلى النقطة التي تبرر قيامها بالغزوات و تأمين احتياجاتها الحيوية، هم يدركون بفطرتهم و عقلهم الجمعي المستند إلى تجارب آلاف السنوات أن هذا هو المخرج الوحيد لهم حيث البديل يبدو مريعاً من ناحية إعادة التوازن بين عدد السكان و البيئة المحيطة و الذي يعني ضمناً ملايين الضحايا.
مخاطر القبائل الشمالية لا تقل خطورة عن مخاطر القبائل الجنوبية و خاصة أن أوهام قبولها من جيرانها الشماليين تتبدد بسرعة و لن يكون لهم إمكانية للتمدد سوى من ناحية الجنوب، التاريخ يخبرنا حاجتهم إلى استخدام العنصر الديني و إلى تركيز الطاقات الفكرية و الصناعية في مراكزهم الشمالية، الدرس القديم الذي تعلمناه من التاريخ حول انتزاع العمال المهرة من مناطق سيطرتهم و نقلهم شمالاً مازال قابلاً لاستخلاص العبر و خاصة في ضوء ميزان التبادل التجاري غير المتكافئ في شهر العسل السوري – التركي و في ضوء سرقة عملائهم لمعامل حلب و تفكيك آلاتها و نقلها إلى الجانب التركي، هذا السلوك النمطي لم يتغير تاريخياً و التعويل على تغيره لاحقاً كان نوعاً من الوهم دفعنا ثمنه غالياً جداً.
ستلجأ القبائل الشمالية إلى سلاح المياه لتدمير مقومات الحياة في العراق و الأجزاء الشمالية الشرقية من سوريا، و ستلجأ إلى التناقضات الدينية لتأمين العدد الكافي من عملاء الداخل لمساعدتها في هذه المهمة التي تشبه أهدافها النهائية أهدافَ قبائل الجنوب لذلك نرى التناقض الحالي في السياسات الحالية بين المعسكرين و الذي يعود إلى اختلافهم على الفريسة و أحقية كل منهم بها.
المسألة الكردية
تختصر القضية الكردية خريطتان، الأولى تم تقديمها في مقترح الشرق الأوسط الجديد عام 2006 و الثانية نجدها منتشرة في المواقع الكردية على الانترنت و تشمل مساحة أكبر بكثير حيث تصل الدولة المفترضة إلى البحر المتوسط شمال مدينة اسكندرون و نرى أيضا بعض الخرائط القليلة التي تشمل إنطاكية.
بالنظر إلى خريطة الكثافة السكانية لتوزع الأكراد في الدول المتجاورة تركيا – العراق- سوريا – إيران، نجد أن التمدد نحو البحر الأبيض المتوسط لا يمكن تحقيقه إلا بتشكيل دولة جامعة حضارية تستطيع إقناع المكونات التركية و العربية بالانضمام إليها أو تشكيل دولة قمعية تقهر المكونات غير الكردية أو القيام بتشكيل دولة كردية صافية عبر تهجير بقية القوميات من أراضيهم.
يصعب تحقيق الاحتمال الأول نظراً لتاريخ العقليات السائدة في هذه المنطقة و استحالة إقامة جزيرة معزولة عن ثقافة المنطقة و خاصة أن رد بقية المكونات في الدولة الكردية المفترضة ربما لن يكون وفق الصيغ الديمقراطية لدولة لا يمكن تشكيلها إلا بالحديد و النار.
سواء تحقق الاحتمال الثاني أو الثالث ستظل الدولة الكردية في جرح ملتهب يحيط بها يعاديها بالمطلق، لذلك تبقى مسألة وصول حدود هذه الدولة إلى البحر لكي تستطيع تنفس الهواء الغربي الداعم لها أمراً لا يمكن الاستغناء عنه، و تبقى أيضاً خطط القوى الغربية من أجل دولة كردية في الحدود المقترحة في مشروع 2006 أكثر تمثيلاً للواقع المرغوب من قبلها و الذي نعتقد أنه لا يمكن تغييره من قبل المكونات الكردية بسبب اعتماد هذه الأخيرة بالمطلق على الدعم الغربي و دعم القبائل العربية في الخليج العربي الذي يناسبها تمزيق منافستها التركية و فتح جرح لا يندمل في جسد قوس الحضارات القديمة يضعف المنطقة التي سوف تستهدفها لاحقاً بالغزوات الضرورية لتأمين احتياجاتها الحيوية.
إن ضرورة تشكيل دولة تابعة للغرب تتعاظم مع فشل الدولة اليهودية في تطوير القدرة العسكرية الكافية للتدخل في المحيط المتسع سكانياً حولها، يمكن للدولة اليهودية أن تساعد في القضايا التقنية و في القضايا الإعلامية لكنها مكلفة مادياً بل باهظة الكلفة على مشغليها و بالتالي يمكن تأمين الدعم البشري للخطط الغربية عبر تأمين دولة كردية محاطة بالأعداء التقليدين و بالأعداء الذين سيتشكلون مع العمليات المرافقة لولادتها.
لن يتخلى الغرب عن مشروع إنشاء دولة كردية و خاصة أنها ستؤدي إلى إضعاف تركيا التي غزت في أوروبا و سيكون هذا هو التقسيم الثاني لها بعد تفتيت الامبرطورية العثمانية، و ستؤمن الدولة الكردية أيضاً منصة عسكرية بديلة عن المنصة التركية و تبقى مسألة فتح طريق إمداداتها القادمة من الغرب الداعم لها مسألة لم تحسم بعد.
التغيرات التي تحتاجها السياسات الخارجية
لا يمكن فصل السلوك السياسي الخارجي عن تغيير الأسس المعتمدة في صناعته و الثقافة الداعمة له، يجب توسيع دائرة صنع القرار لتشمل كافة المكونات السورية تمهيداً لتوسيعها مرة أخرى لتشمل دول القوس الذي ذكرناه، و يجب الكف عن الأحلام التي لا يثبت التاريخ واقعيتها أو جدواها و من أهمها مفاهيم القومية العربية التي تجمع شعوباً تتعارض في مصالحها بل تتنافر و تتعادى بفعل ضغط حاجاتها الحيوية و البيئة، لندرس التاريخ جيداً و لنعترف بأسماء المكونات التي هاجمت المشروع الناصري و فيما بعد أي مشروع قومي تلاه، يجب الكف أيضاً عن ترويج نظرية المؤامرة و القادة العملاء للغرب و الشعوب المقهورة، هناك كتل بشرية مختلفة تختار قادة يعكسون الثقافة السائدة في جزء مهم من مجتمعهم، و عليه يجب إسقاط مقولة الشعوب التي ستتحرر و تنشأ الدولة القومية المزعومة و التي لا يعادلها سوى دولة الخلافة و التي تقوم على عصبية دينية فشلت حتى الآن في أن تكون جامعة بل نجزم أنها السبب الرئيس في تمزق هذه المنطقة و معاناتها الدمار و الحروب.
يجب الكف كما أسلفنا عن تطهير أنفسنا بإلقاء اللوم على الغرب، مفتاح التغيير هو في اعترافنا بالواقع و نضج ثقافتنا لكي تعترف بمصالحها و نتائج نجاحاتها و أخطائها أيضاً.
المقترحات:
- الابتعاد عن مفهوم الجامعة العربية و الانسحاب منها و عدم الاعتراف بشرعية وجودها من الأساس كونها كانت الممر لتحطيم العراق و ليبيا و سوريا و لم تستطع أن تقدم سوى تبرير العدوان على شعوب المنطقة، يجب تفكيك هذه المنظومة لكي لا يتم استخدامها ذريعة لتدمير بقية الدول التي لا تتناسب سياساتها مع السياسات الغربية.
- الكف على عن تشكيل السياسات الخارجية وفقاً للتعصب الديني أو اللغوي و بدء إدخال لغة مصالح الشعوب المختلفة و تحقيق تكامل مصالحها بناء على أسس واقعية تستطيع أن تفسر لماذا ساعدت سوريا في محنتها روسيا و الصين و فنزويلا و دول أخرى بينما حاولت تدميرها دول مثل السعودية و قطر، لا يمكن للمنظور القومي أن يفسر سبب عداء دول الخليج شعوباً و حكومة لسوريا لكن يمكن فهم سلوك هذه الدول بسهولة في ضوء دراسة تاريخ هذه القبائل و تاريخ مصالحها الاقتصادية.
- إنشاء التحالفات مع الدول نتشارك معها المصالح الدائمة استعداداً للمواجهة القادمة مع اعتبار دروس السنوات الثلاث الماضية.
- محاولة استيعاب المكون الكردي ضمن اتحاد دول المنطقة على أسس المصالح المشتركة و بعيداً عن التعصب القومي المدمر و بالتالي يمكن حل القضية الكردية عبر تكوين رئة جنوبية تتنفسها المناطق الكردية و تتفاعل مع كافة مكونات شعوبها، إن هذا التحول يتطلب تغييراً جذرياً في الفكر الدافع للسياسات و يمكن أن يقود في حال نجاحه إلى فصل أهلنا الأكراد عن المشروع الغربي و محاولة السيطرة على القرار الكردي ، كما يساهم في إضعاف المشروع التركي الذي يعادي مشروع سوريا الطبيعية و يعادي في الآن نفسه المشروع الكردي، كما نضمن فصل استغلال القبائل الجنوبية لحالة الاحتقان الكردي الناتج عن سياسات عنصرية قومية مورست ضدهم خلال حقبة طويلة.
- مقتل المشروع الإسرائيلي هو في تكوين دولة حضارية متعددة القوميات و متعددة الأديان قابلة للحياة بحيث تبدو أمامها إسرائيل كياناَ عنصرياً شاذاً و متخلفاً، كل الأدبيات الإسرائيلية و أدبيات مثقفيها الغربيين المتعاطفين معها تركز على العامل الطائفي في تحليل جميع أحداث هذه المنطقة، إنه الرهان الوحيد لديهم، و هو الفرصة الوحيدة لتبرير المشروع الإسرائيلي أخلاقياً و لا يجب تحت أي ذريعة إعطاء المحور الغربي هذه الفرصة مهما كان الثمن، لذلك يجب إجراء تغيرات داخلية مؤلمة في الثقافة السائدة و إعادة الحياة الحزبية الحقيقية و العمل على استيعاب و توحيد المكونات الدينية و القومية عبر تأسيس تيارات فكرية يتم تسويقها خارجياً في دول المنطقة المحيطة بنا، النجاح الجزئي للمشروع الخليجي المدمر عائد إلى حد كبير إلى إمكانية توظيف الإعلام لزرع المشروع الديني الذي يتيح لها السيطرة على موارد بشرية مقاتلة إضافية، لا يمكن مقاومة هذا السلوك إلا بمشروع معاكس يخاطب المكونات التي تتناقض مع الرؤية الدينية المنغلقة للمشروع الخليجي و المتحالف عضوياً مع المشروع الإسرائيلي المنطلق من الأسس نفسها.
- تعطيل مشروع الصراع السني – الشيعي عبر إغلاق مساراته المحتملة و إيقاف الدعم لنشاطات الأحزاب الدينية كلها دون استثناء بما فيها حركة حماس و حزب الله و الضغط لتشكيل مقاومة وطنية جامعة. و يتطلب هذا المحور أيضاً إعادة هيكلة العلاقات مع إيران و اعتبار دعمها للتيارات الدينية في المنطقة خطراً حقيقياً يهدد بمزيد من التشرذم و بمزيد من الصراعات الدموية، يجب أن يقوم التعاون مع إيران على أسس تاريخية و حضارية بغض النظر عن الطبقة الحاكمة مما يضمن استمرارية تفاعل مكونات قوس الحضارات مع بعضها البعض في حال تغير النظام الإيراني الحاكم الآن.
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟