تتحدث المقاربات المختلفة عن الأزمة السورية عن الطائفية و الهوية الاجتماعية كعامل اساسي و محرك ضروري لاستمرار الازمة، و رغم تباين التفسيرات في سبب و تاريخ بدء المشكلة الطائفية فإن هناك اجماعا على أن التعامل مع هذه المشكلة ضروري و لازم قبل أي حل. و رغم التفاوتات في تقدير درجة جذرية هذه المظاهر، فإن هناك خشية حقيقية من تحولها الى هويات فرعية اكثر تجذرا بعد طول عمر الازمة، و بالاخص مع ظهور اشكال من محاولة تصنيع هذه الهويات و فرضها تمظهرت في اشكال من قبيل التسميات الطائفية لاحداث زمانية و تشكيلات مختلفة و ظهور عبارات الاغلبية و الاقليات من منظور مذهبي و ديني بشكل غير مسبوق. و استدلال البعض على ان ذلك قد يشكل تحديا كبيرا في مرحلة لاحقة يخشى من خلالها تحويل الصراعات الى بنى سياسية مبنية على أسس اثنية او مذهبية كما الحال في لبنان أو في العراق.
تحاول هذه الورقة الاجابة عن المسائل المطروحة من خلال فرضية اساسية هي التالية:
لقد كانت الهوية الوطنية السورية عبر تاريخها هوية مبنية على تآلف مكونات متباينة في المجتمع، و هذه الهوية تشكل صلب الهوية السورية التي نشأ عليها اغلب سكان المجتمع السوري الفتي. و بعيدا عن التعداد لجميع التيارات السياسية و المكونات الاثنية فان من الممكن تقسيم المكونات الثلاثة للتفكير المتعلق بالهوية الى ثلاث تيارات كبرى:
1- القومي العربي
2- القومي السوري
3- الفكر الديني (الاسلامي خصوصا)
تنطلق هذه الورقة من فرضية ان التيارات الثلاثة و رغم تنافسها الواضح تتحلى بخصائص مشتركة:
1- جميع هذه التيارات تنظر الى سورية على أنها صاحبة رسالة تفوق حجمها الطبيعي، فهي قلب العروبة النابض و مهد حركة القومية العربية في مطلع القرن الماضي ضد الحكم التركي بالنسبة للقوميين العرب، و هي سوريا الأم في الفكر القومي الاجتماعي السوري، و هي رمز للحضارة الاسلامية في تجليها المديني الأول (الدولة الاموية) و نموذج بناء الاندلس كذروة الحضارة العربية الاسلامية بالنسبة للتيار الاسلامي، و مركز انطلاق المسيحية الى العالم.
2- جميع هذه التيارات تحتوي بذور التحول الى حركات رافضة للاخر و هويات جزئية قاتلة: شوفينية متعصبة بالنسبة للقومي العربي، و عنصرية انعزالية عن المحيط و التاريخ العربي بالنسبة للقومي السوري، و تطرف ديني أو مذهبي بالنسبة للتيارات الدينية.
3- هناك تقاطعات بين التيارات المختلفة، و هذه التقاطعات توضح المشترك بينها، فقد تكلم سعادة مثلا عن القومية السورية كوسيلة للتعاون مع العرب من خلال “العروبة الواقعية” و ليست انعزالية كما اتهمت حركته، كما أنه فصل في “الاسلام برسالتيه المسيحية و المحمدية” كعنصر اساسي في القومية السورية. كما أن الاديان السماوية هي جزء من الرسالة الخالدة للأمة العربية لدى القوميين العرب.
هذه التقاطعات و الخصائص المشتركة عنت أن الهوية الوطنية السورية، كانت دائما اكبر من وجودها الجغرافي، و لكنها عنت ايضا ان هذه المكونات الثلاثة الكبرى لعبت ضوابط لمنع انجراف اي من الهويات الى المنطقة المتطرفة و الخطيرة فيها، و يمكن المحاججة ان الهوية الوطنية في سورية قبل الازمة كانت تحتوي المكونات الثلاثة و ان بنسب تتفاوت حسب الفرد. ما حدث إبان الازمة هو محاولة تحطيم هذه الهوية المعقدة من خلال التصوير المستمر لمكونين من هذه الهوية على انها منافية للهوية الوطنية: القومية العربية من خلال استخدام الجامعة العربية كمركز لفرض وجهات نظر خارجية على سورية و الاسلام من خلال دخول التفسيرات المتطرفة و استخدامه كوسيلة للتجييش و التجنيد. و قد جرت محاولات للدفاع عن الهوية الاسلامية من خلال خروج مفاهيم مثل “الاسلام الصوفي” و “الاسلام الشامي” الى العلن، بينما بقي الخطاب القومي العربي اسير القولبة و الترهل من خلال تماهيه مع اجهزة الدولة. و لكن اي حل يجب أن يخرج هذه المكونات الثلاثة للهوية من القوقعة في الاطراف الخطرة الى الوسط المتنافس على الشعبية و المضطر في سبيل ذلك للاقتراب من المشترك. هذه الرسالة التي لعبتها سورية عبر تاريخها مهمة داخليا للخروج من الازمة و تلافي التشظي الخطر على الهوية الوطنية الجامعة، و خارجيا لأن سورية لعبت سابقا دور نموذج التعايش الذي اقتبسته بلدان اخرى كماليزيا في نهضتها و هي قادرة على اختراع نموذج جديد للعالم لأن مشكلة الهويات الجزئية مشكلة عالمية قابلة للانفجار في اي بلد تضعف السلطة المركزية فيه.
المسائل المطروحة
الخيارات السياسية السورية و التنوع الطائفي
المبادئ الناظمة
الاعتراف بالتنوع الطائفي ليس ضرورة بغض النظر عن مآلات الأزمة. الهويات الثلاثة الكبرى في تجلياتها الأكثر شيوعا في سورية ليست طائفية أو شوفينية أو عنصرية بالضرورة، و قد يكون تفعيل التنافس المجدي بين ثلاثتها (و الافكار الاخرى المنافسة سياسيا دون انعكاس على الهوية، كالحزب الشيوعي) هو الطريقة الامثل لصياغة هوية وطنية قوية و الابتعاد عن مأسسة هويات جزئية بازغة بسبب الظروف الاستثنائية التي تعيشها سورية اليوم. لذلك فمن الضروري فتح مجالات المشاركة لهذه التيارات على قدم المساواة ضمن ضوابط قانونية:
1- تجريم اثارة النعرات الطائفية و العرقية و الدينية بشكل حازم.
2- عدم تمييز تيار عن التيارات الاخرى بمزايا غير متكافئة. استغلال دور العبادة أو دوائر الدولة أو الجيش أو الارتباطات الخارجية مثلا يجب أن تعاقب بشكل متكافئ بين التيارات المختلفة و قد تصل الى تعليق الترخيص.
3- مسألة السماح بتمييز الانتماءات المختلفة من خلال تسمية الحزب هي أمر يستحق الطرح لنقاش موسع. رغم المآلات الجديدة في مصر و تركيا فإن الاستفادة من المسموح و الممنوع في قوانين انشاء الاحزاب فيها في السنوات السابقة قد تكون شديدة الصلة و الفائدة في هذه المرحلة. بل أن التفكير في السماح باستخدام التسميات الدينية في عنوان الحزب قد يكون جديرا بالاعتبار، فليس هناك فرق حقيقي بين تسمية “حزب العدالة و الكرامة” و “الحزب الديمقراطي الاسلامي” مثلا، بل ان السماح بتسميات كهذه يجعل من اعضاء كل حزب مقتنعين فعلا بما هم مشتركون به، بدل أن يحسبوا على ايديولوجية معينة و انما انتماؤهم لها كان بسبب عرقي – اثني او طائفي. ربما كانت هذه المرحلة في سورية الانسب للتفكير بالسماح بما كان يعتبر احد التابوهات الكبيرة و لهذا السبب.
ايجاد نظام سياسي ملائم و حلول للطائفية
التعامل مع الوضع الطائفي الطارئ هو مهمة مجتمعية مركبة تمتد الى التعليم و الثقافة و العدالة في الفرص المتاحة و لا يقتصر على الجانب السياسي. و من الصعب الاستفادة من التجارب المختلفة في بلدان اخرى بسبب عدم وجود طائفية معلنة أو مقوننة في القواعد و التشريعات السورية حتى يتم تعديلها. و لكن النظام السياسي الملائم في هذه المرحلة يجب ان يمتد لاعطاء فرص التعبير عن الانتماء البديلة شكلا واضحا، و هو يعني زيادة اهمية الدور الذي تلعبه الاحزاب في الحياة السياسية و تقليل القيود على تأسيس المزيد منها، و لكن بشكل متزامن مع زيادة اللامركزية في شؤون الادارة المحلية. يسمح ذلك بوضع المصاعب المعيشية و القضايا المحلية في اطارها الملائم و يمنع من استغلالها في امور سياسية تعزز الطائفية. و السماح بايجاد احزاب معبرة عن الانتماءات المختلفة و تنافسها دون وجود حصص مسبقة (كوتا) او تقسيمات طائفية للدوائر الانتخابية قد تساعد في ضبط العملية و اخراج التنافس من الشكل الطائفي الى الشكل الملتزم ببرنامج.
تغيير البنية الفكرية للطائفية
تتغذى الطائفية من ظروف عدم الاستقرار، و من انعدام طرق التعبير الاخرى عن الانتماءات و من الشعور بالظلم و عدم العدالة. و المشكلة هنا لا تقتصر على الحقيقة، بل تتغذى أيضا من البروباغاندا السياسية و التاريخية و من الادراكات السائدة perceptions والتعامل مع هذه المسألة يتطلب مجموعة من المبادرات على مستويات متعددة و لفترات مطولة، منها على سبيل المثال:
1- تطوير النظام التعليمي الرسمي بحيث يتم تدعيمه بروايات اكثر مباشرة في التعامل مع المواضيع الحساسة لمنع حصول فراغ يتم ملأه من خلال مصادر ذاتية. اضافة مقرر مشترك في الاخلاق و الاديان ايضا مهم دون ان يعني ذلك تغيير المناهج الدينية الحالية.
2- التعامل مع شعور عدم العدالة الحقيقية او المدركة، و ذلك من خلال تفعيل طرق الشكوى على عدم العدالة او الفساد بشكل جدي.
3- من الممكن نسخ التجربة الصينية في اجراء استبيانات رضا المواطنين في قضايا مختلفة لزيادة الشعور بالانتماء للدولة كمواطنين و ليس كطوائف.
4- اعادة نشر التراث السوري في التعامل مع الطائفية في طبعات كتب شعبية و من خلال الجرائد و وسائط الاعلام المختلفة، و ذلك يتضمن العودة للتاريخ منذ عهد الامير عبد القادر الجزائري و اعادة طبع التراث الذي تعامل مع هذه القضية البازغة وقتئذ اثناء الصراع الغربي مع الدولة العثمانية و مشاريع طاهر الجزائري و رشيد رضا و كردعلي و غيرهم.
5- اطلاق مشاريع مستفيدة من تقنيات الويكيبيديا و باشراف متخصصين لكتابة التاريخ السوري على الانترنت. مشاريع موجودة مثل كتاب “حكاية اسمها سورية” و مثل تحقيق مذكرات السياسيين السوريين و اتاحة كتب تاريخية على الانترنت بشكل مجاني تساهم في توثيق التاريخ بشكل موضوعي يمنع من استفادة المحرضين من الفجوات المسكوت عنها في التاريخ و كتابة التاريخ بما يعزز مصلحتهم الطائفية.
النموذج المثالي من العالم للتعامل مع التنوع المذهبي والعرقي و عوامل نجاحه
من غير الممكن ايجاد نموذج مثالي و نسخه، فالدول تتفاوت تاريخيا و في تركيبها الاجتماعي و الاثني. و من الممكن القول ان جميع النماذج في العالم اليوم مبنية على اساس الدولة الأمة، و على أساطير مؤسسة مختلفة تم التاسيس لها في نهاية القرن التاسع عشر. هذه النماذج لم تعد صالحة في عهد وسائط الاتصال الاجتماعي على الانترنت و هناك حاجة لنموذج جديد. حتى النماذج الاكثر قدرة على التعامل مع هذه القضية التي تزداد اهميتها في العالم اليوم كبريطانيا تستند في التعامل مع القضية الطائفية على تاريخ طويل من الممارسة الديموقراطية و على المكانة الخاصة لبريطانيا كقلب للامبراطورية في القرن التاسع عشر قادر على اجتذاب النخب، و هذا النموذج يعاني من مشاكل طارئة في التعامل مع الطبيعة الديموغرافية المتغيرة و مع عصر التواصل الاجتماعي. و يمكن ملاحظة مشاكل مماثلة في المناطق الداخلية في امريكا المختلفة عن المدن الامريكية الكبرى في تسامحها مع الغريب أو في فرنسا من خلال الاضطرابات المتكررة من ذوي الاصول العربية و الافريقية. و في الدول الشرقية فإن الهند و الصين هما النموذجان الاهم (استبداد الدولة في مقابل الديموقراطية الشعبية المليئة بالحزازات)
في عالم اليوم قد يكون تاريخ سورية و التركيز عليه في التأسيس للمرحلة القادمة، دون الخوف من مراحل او انكار فضل مراحل اخرى قادر على ايجاد نموذج افضل من اي نموذج يمكن نسخه، و ذلك في اطار شفافية و تشجيع الشعور بالمشاركة و بالعدالة.
الاستفادة من التنوع الأتني في سورية واستخدامه داخل الدستور
من الخطورة التركيز على نقل التنوع الاثني من كونه حقيقة معاشة، تعتريها احيانا أزمات كبرى كما الوضع في الزمن الراهن، الى وضع مقونن و موضوع في الدستور. ان فتح قنوات اخرى للتعبير من خلال الاحزاب و الادارة المحلية ذات النفوذ الاكبر تساهم في نقل الانتماء الطائفي الى قنوات اكثر صحية تعبر عن رغبات المرء في الاحزاب و الادارة و ليس عن انتماءهم الطائفي الموروث. كما ان التمثيل الجغرافي الضيق للدوائر سيسمح بعدم استبعاد اي مكون من الدستور.
ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟