مسارات ثلاثة، و طريق خيالي نحو الديموقراطية

سنتناول هنا أربعة تصورات مختلفة للتغيير المفترض في سوريا، متعلقة بسرعة التغيير، و اتجاهه و شموله:

1 – قبل الأزمة الأخيرة ، كانت المعطيات تشير إلى أن الرئيس بشار الأسد كان يعتزم التحرك باتجاه الإصلاحات بجدول زمني طويل الأمد، معتمداً على نيته بالترشح مجدداً للرئاسة عام 2014 و لفترة تبلغ سبعة سنوات جديدة، مما كان سيعطيه مده كافية للتحرك بالشكل الذي كان يبتغيه. في السنوات السابقة، كان النظام مشغولاً بالتعامل مع الضغوطات الكبيرة التي مارستها عليه إدارة بوش العدوانية، و إدارة شيراك، إضافة إلى حلفائهما العرب و الدوليين. في عام 2008، ابتدأت تلك الضغوط  بالانحسار نوعاً ما، مما أتاح المجال للرئيس لأن يولي وقتاً و جهداً أكبر للاصلاحات الاقتصادية. أخبر الرئيس زواره الغربيين الذين كانوا يسألونه عن الاصلاحات السياسية بأنه سيولي الاصلاحات الاقتصادية الاهتمام الأكبر في الفترة القادمة، و سيركز على تسارعها بشكل كبير، بينما سيتحرك على صعيد الإصلاحات السياسية بحذر أكبر. كان يقول بأنه و من لقاءاته العديدة مع المواطنين السوريين، وجد أن الهم الغالب على معظمهم كان يتعلق برفع المستوى المعيشي لهم و لعائلاتهم بتوفير فرص العمل و الدخل، و السكن، و التعليم.

حتى لو افترضنا جدلاً أن رؤيته تلك كان لها ما يبررها، فإن “الربيع العربي” قد وصل أخيراً إلى المحطة السورية، و أثبت الشباب السوري من خلاله بأنه مهتم جداً بالإصلاح السياسي، لا الاقتصادي فقط، و أنه يريد أن يرى تقدماً ملحوظاً في ذلك المجال و بخطىً سريعة. كنتيجة لذلك، فإن خطة الرئيس السابقة في تحقيق الإصلاح السياسي على مدى فترة طويلة تمتد حتى نهاية الفترة الرئاسية من 2011-2014 (انظر الرسم [A] أدناه) لم تعد واقعية اليوم. و باستثناء بعض المتشددين في دعم النظام، فإن معظم السوريين اليوم يبدون مستعدين لأخذ خطوات أكثر جرأة، في سبيل تحقيق إصلاحات جذرية على الصعيد السياسي، دون أن  ننفي أنه لا تزال هناك تباينات واضحة بين آراء السوريين فيما يتعلق باتجاه، و عمق، و سرعة هذه التغييرات.

2 – من الطرف الآخر، يؤمن الكثيرون من أنصار المعارضة السورية، كما تفعل المعارضة في كل مكان عندما لا تكون في الحكم، بأن كل شيء ممكن عندما تستلم هي الحكم. يرى هؤلاء أن السرعة التي يتحرك بها الأسد لتحقيق الإصلاحات غير كافية، و يعطون الانطباع أنه و بمجرد سقوط النظام، فإن كل شيء سيكون على ما يرام، و أن سوريا ستشهد ازدهاراً ديموقراطياً واضحاً و انتخابات حرة تعددية بعد سقوط النظام بفترة قصيرة. و تعكس شعارات مثل “الشعب السوري واحد” الصورة التي يريد هذه المعسكر إيصالها من أن آمال و أهداف الشعب السوري كله متفقة و متجانسة في عدائها للنظام، و كذلك في رؤيتها لما يلي تلك المرحلة و رغبتها بالتغيير الديموقراطي الحقيقي و الفوري. (انظر الشكل [O]). إلا أن نظرة أكثر واقعية للواقع السوري تخبرنا بأن هذه الطروحات المغرقة في التفاؤل ليس واقعية على الأرض، و أن “الشعب السوري” ليس متفقاً كله على فكرة إطاحة النظام، فضلاً عن تصوراته لأية مرحلة تالية، بل إن النظام يتمتع بدعم نسبة مهمة من السوريين مدنياً و عسكرياً.

3 – في رأينا، فإن أكثر السيناريوهات واقعية هي التي ترى تعاوناً بين الرئيس و الجهات المؤيدة للتغيير داخل النظام من جهة، مع أطراف المعارضة التي تقبل بالحوار مع النظام من جهة أخرى. على أن يقود ذلك الحوار و بمشاركة من كل الأطراف، باتجاه سلسلة من الخطوات الإصلاحية الجذرية في سوريا. في هذا السيناريو، فإن الحوار الوطني الذي يتفاعل ضمن برلمان حديث منتخب بشكل عادل و تمثيلي، و ضمن حكومة “وحدة وطنية” تضم أطياف القوى السياسية السورية، هو الطريق الوحيد، واقعياً، لمجابهة تعنت بعض الأطراف المعاندة للتغيير، مع إشراك أكثر ما يمكن من الرؤى الوطنية في عملية بناء مستقبل سوريا. على كل الأطراف أن تفهم أن الإصرار على طلبات حدية إقصائية، هو موقف ضار و لا يمكن أن ينتج عنه المستوى الأدنى من الإجماع الوطني. و على جميع الأطراف المشاركة في عملية الحوار الوطني أن تدرك أنه ليس بمقدورها أن تفرض آرائها الحدية و المطلقة على الأطراف الأخرى.

بالطبع، حتى في تصور كهذا، فستكون هناك مطبات على الطريق، و لن تتبخر معاندة التغيير بين ليلة و ضحاها (انظر الشكل [B]).لذلك، فعلى المعارضة تحديداً ألا تتخذ أية عثرة أو تأخير قد يحصل كحجة على مقاطعة الحوار و التخلي عن العمل مع الأطراف الأخرى في البرلمان الجديد أو الحكومة المزمع إنشاؤها.

ضمن هذا السيناريو، و بالاستفادة من القوانين الجديدة و خاصة قانون الأحزاب و قانون الانتخابات، فإن الفترة الممتدة من الوقت الحالي و حتى نهاية ولاية الرئيس في 2014 يفترض أن تكون كافية للوصول بجميع الأحزاب، سواء منها المنشأة حديثاً، أو القديمة المحدثة، إلى وضع يسمح لها بالتنافس الفعلي على كل المستويات.

4 – السيناريو الأسوأ (و الكارثي) هو عندما تستمر المعارضة الإلغائية برفض الحوار و بارتهان أمن و اقتصاد البلاد، مما سيزيد من حالة الاستقطاب الحالية اتساعاً و حدة (مناطقياً، طائفياً، اجتماعياً، مشروعياً). في هذا السيناريو، سيستمر اقتصاد البلاد في تلقي الضربات حتى ينهار، مما سيسمح للقوى الخارجية بالتدخل بشكل أكثر سفوراً في الشؤون السورية (انظر الشكل [W]). في حال سارت الأمور بهذا الاتجاه، فإن أفضل ما يمكن توقعه هو أن سوريا ستتراجع بشكل كبير، و ستحتاج إلى زمن طويل لتعاود الوقوف من جديد على قدمين ثابتتين. و في الحقيقة، فإننا لا نحتاج للكثير من الخيال لنرى أن الوضع يمكن أن يتدهور بشكل كبير، لا أن يتراجع فقط. و احتمال التقسيم في هذه الحالة إلى عدد من الدويلات أو شبه الدويلات على أساس مناطقي أو طائفي أو إثني هو احتمال حقيقي تماماً.

يحلو لبعض المثاليين من طرف المعارضة، و في خضم تركيزهم المطلق على هدف وحيد هو إسقاط النظام، أن يطلقوا تطمينات رومنسية بأن سوريا مختلفة عن الدول الأخرى المتنوعة عرقياً و دينياً التي انهارت و تفككت بتفكك سلطاتها المركزية عنوةً. و فيم نوافق على أن معظم السوريين فعلاً ليسوا طائفيين أو مناطقيين أو تقسيميين، فإننا نرى أن هناك عدد لا يستهان به ممن سيلجأ إلى السلاح ما لم يبدأ الجميع بالحوار. هذا السيناريو، و الذي يشتمل على انهيار اقتصادي، و تفش للجريمة، وصولاً إلى الحرب الأهلية على الطريقة اللبنانية، هو احتمال حقيقي، و لا يمكن إلغاؤه عبر حملة من الشعارات البراقة، و الخطب الرومنسية وبهلوانيات العلاقات العامة. و هذه النسبة من السكان، مدفوعة بحوافز ضاغطة جداً من الخوف و الوهم و الطمع و الدين، و بتوفر المال و السلاح، لن تتوقف لتستمع إلى الخطب الرنانة عن المواطنة، و لا لتقرأ الشعارات الحالمة للمثاليين. سيكولوجية العنف و الإلغاء محفورة بعمق في وجدان عدد كاف من سكان الأقليم بأكمله، عبر تراث طويل لا يتميز بالديموقراطية، و عبر التحريض المستمر القائم على طول المنطقة و عرضها. و يمكننا التأكد من أن قوى خارجية ستدخل على الخط عبر توفير التمويل و التسليح و التوجيه، بحيث تدفع المخاض العنيف دفعاً نحو الاتجاهات التي تناسبها هي، و كل ذلك على حساب الوطن السوري و على حساب دماء السوريين. مثل هذا السيناريو لن يقف بالتأكيد عند الحدود السورية و سيمتد بالتأكيد إلى لبنان، و العراق، و ربما تركيا.

مقالة بقلم كميل أوتراقجي

النسخة العربية بقلم إبن رشد Averroes



Comments (3)


akassab said:

تحليل جيد جداً كميل… ملاحظتي الوحيدة هي أنني لا أتفق معك بأن كل الطرق تؤدي إلى النتيجة المرجوة في نفس الفترة الزمنية وإنما عن طريق وسائل مختلفة.. أظن أن النتيجة المرجوة في إحدي هذه الاحتمالات ستكون مغيبة تماماً ويمكن أن نؤخرها لنصف قرن في حال الحروب الأهلية والتدخل الأجنبي… وهو ما نلاحظه في وضعمعظم الدول التي عانت وتعاني من تدخل أجنبي..

January 20th, 2012, 6:25 pm

 

Averroes said:

يجب أن أتفق معك في هذه النقطة. الحقيقة أن السيناريو الرابع قد يأخذ عقوداً من الاحتراب، و يمكن بالفعل ألا يؤدي إلى سوريا أفضل خلال جيل كامل. نعم. ة لذلك يجب العمل على تجنب هذا السيناريو بكل الوسائل.

January 20th, 2012, 7:37 pm

 

MMK said:

التحليل يقف على ابعاد الواقع بجرأة .. ومن يرفض الحوار بالمجمل يستخدم دماء الشهداء من اجل إراقة دماء

أكثر , وإذا كان الواقع لن يرحمنا .. فإن المستقبل لن يكون أفضل و لعنات التاريخ ستصحبنا ليل نهار في قبورنا لأننا قد أضعنا الوطن و جلدناه و هو بأشد الحاجة إلى عقولنا لتتفاهم … ليتهم يسمعون أصوات العقول

January 22nd, 2012, 4:03 pm

 

Post a comment