دراسة خلدون خشانة

 

لا يمكن ايجاد حلول تحفظ استقلال سورية ووحدة أرضها وشعبها وتوفر استقرارها واستمرارية الدولة السورية بدون تكلف عناد البحث العلمي وتطويره سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا واحصائيا مع تشابك هذه البحوث على كل صعيد عملي  وتطبيقي‫. وايجاد الحلول مسؤولية تاريخية يحملها كل سوري كل من موقعه وحسب طاقته‫. كما لايمكن بناء دولة قائمة على احترام حقوق الانسان اولا ومتوافقة ومتصالحة مع الاسس الحضارية الوطنية العربية والاسلامية  والانسانية بدون انتاج هذه الر‫ؤية العلمية وترجمتها الى خطة استراتيجية واقعية. كما لابد من وضع معايير لتنفيذ الخطة الاستراتيجية من خلال خطط مرحلية تتضمن توازي إعادة اعمار الانسان السوري مع اعادة اعمار الدولة. ومن خلال هذه المداخلة اقدم بعض النقاط التي اراها من موضعي مدخلا للحوار في قضية الخروج من الأزمة ورسم ملامح الدولة القادمة. أريد أن اطرح خمسة مبادئ قد تساعدنا كسوريين على تبني رؤية للدولة القادمة. هذه المبادئ غرضها الوصول لطريقة حكم امثل ونترك التفاصيل لشرح موسع. هذه المبادئ هي مبدأ تناغم الدولة مع المجتمع السوري ومنع انفصالها عنه مستقبلا في الممارسة العملية والتطبيقية. المبدأ الثاني هو تفعيل الديمقراطية بالمعنى الذي يتفق عليه السوريون. المبدأ الثالث هو النظام الجمهوري والتداول السلمي للرئاسة. المبدأ الرابع هو فصل السلطات. والمبدأ الخامس هو التوازن بين المصالح المحلية والوطنية من خلال التمثيل الديمقراطي. في نقاش كل مبدأ نخلص الى بعض الاتجاهات أهمها فصل السلطات غير ممكن مع بقاء هندسة المنظومات التنفيذية والتشريعية والقضائي على حالها ولابد من إعادة هذه الهندسة. كما نخلص الى ان التمثيل الديمقراطي الحالي من خلال مجلس الشعب لا يمكن ان يوفر الشروط الكافية لأي أداء ديمقراطي مقبول وندعو الى تأسيس مجلس وطني منتخب انتخابا مباشرا ومؤلفا من ٢٨٠ عضو عن كل ناحية في سورية يحدد مهامه واختصاصه الدستور كما يحدد تفاعله مع مجلس الشعب. تستعمل المرحلة التاسيسية للمجلس الوطني للخروج من الأزمة الحالية وتعزيز الانتماء الوطني ودفع مهمات المصالحة الوطنية.

مقدمة

الدستور السوري يقول ان الشعب هو مصدر السلطات ولكن الواقع أن الشعب يتلقى ما تنفذه السلطة التنفيذية فق وذلك لضعف السلطات الموازنة تشريعيا وقضائيا واعلاميا ولعدم وجود حقيقي لصوت الشعب في الحكم. ومعظم السوريين يدركون ان الشعب السوري في التاريخ الحديث لم يكن يوما مصدر السلطة في سورية لان تصميم الدولة السورية بم يوفر آليات التواصل المعرفي والاحصائي والتشريعي والاداري الذي يعكس بأمانة علمية ما يريده الشعب. واوكلت الدولة مهمة تخمين مايريده الشعب الى النخب الثورية واجهزة المخابرات المحلية والمركزية التي لم تحسن الانتقال من مرحلة الثورة الى مرحلة الاستقرار السياسي المتصالح مع الشعب واهملت تطوير ادوات الحكم وتوفير ظروف التطور السياسي. وهذا الخلل في التصميم أدى الى ممارسة الاحتكار السياسي ليحل محل حكم الشعب لنفسه‫. والاحتكار السياسي يقود حتما الى الاحتكار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لمصلحة الدوائر والافراد الموصولة بالدولة‫. وتتطور في ظل ذلك آليات الفساد لضمان استقرار المنفعة الشخصية لأفراد القائمين على الاحتكار والهرميات المترتبة على هذه المنافع‫. وتدريجيا يحل الابداع في طرق الفساد محل الابداع في المنافسة العلمية والتجارية المفيدة للمجتمع ويتدمر تماما مبدأ تكافؤ الفرص‫. وبوصول الفساد الى الاجهزة القضائية ـ كأخر ملجأ للمواطن ‫ـ تصبح الدولة واجهزتها موظفة لمصالح افراد وليس لمصلحة الشعب ويفقد الشعب ثقته بالدولة وتصبح الدولة في نظر المواطن مصدر الظلم والاستغلال بدل ان تكون محققة للعدل وضابظة للفساد وهذا ما نعنيه بانفصام الدولة عن المجتمع وينتج عنه ضعف الشعور بالانتماء للوطن  وازدياد احتمال هجرة الأدمغة والأيدي الماهرة والاستثمارات‫. وانفصام الدولة عن المجتمع لا يراه ـأو لايريد أن يراه ـ من هو في داخل دائرة الحكم من المنتفعين من هذا الانفصام بينما يضخمه من هو خارج هذه الدائرة من المتضررين الى أن يصبح مع استمرار الضغط عدوا للدولة وللقائمبن عليها ومشروعا أوليا للمشاركة في تدميرها‫.

المبدأالأول هو مبدأ تناغم الدولة مع المجتمع عندما تتفهم الدولة انها بمؤسساتها وموظفيها مؤتمنة وخادمة لمصالح الشعب ومحققة لنموه وازدهاره وانها ـ كدورة الحياة ـ قابلة للتجديد والتطور والتغيير من خلال التداول السلمي للحكم مع بقاء الثوابت الوطنية واستمرارية الاستراتيجيات‫. والسؤال هو ما هي الطريقة لبناء هذه التناغم بين الدولة والمجتمع؟ من خلال دراسة نظم معقدة متعددة يتبين علميا انه لابد من تفعيل مبدأ تلازم الاستدلال الاستقرائي والاستنتاج المنطقي في بناء الدولة القادمة‫. ويتلخص هذه المبدأ بتلازم مشروع بناء الدولة والمجتمع من الاسفل الى الأعلى اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا واداريا من خلال الاستدلال الاستقرائي اي من خلال الانتخابات المحلية النزيهة فعلا وتوفير الاحصائيات الواقعية لتلخيص ماهية وطبيعة وآلية مشاركة المواطن في الحكم‫. ومن حيث المبدأ فإن الاستقراء يجب أن يرافقه حملات تثقيفية لرفع سوية وعي المواطن بحقوقه كفرد في المجتمع‫. اي لابد من إعادة برمجة لمواطن تعليميا وعلميا من قبل ذوي الخبرة بالتزامن مع إعادة برمجة العقليات المتمترسة خلف ممانعة مشاركة الشعب في الحكم والتي لازالت صاحبة القرار‫. وهذا يؤدي الى الشطر الآخر من المعادلة أي الى تلازم تصميم البناء من الأعلى الى الأسفل من خلال الاستنتاج المنطقي المؤطر بالثوابت الوطنية‫. ومن ثم يلخص الدستور هذه المبدأ بالاتجاهين كناظم للعلاقةبين أفراد المجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى‫.

ولتحقيق ذلك فإن فهم خصائص الانسان السوري وما يعزز انتماؤه لسورية يؤسس لفهم خصائص المجتمع السوري ويبنى عليه مفهوم الدولة‫.

ويقابله ويناغمه وينتج عنه وضع مفهوم للدولة القادمة من الأعلى الى الأدنى بكل تفاصيلها وثوابتها الوطنية يؤدي الى وضع وتوجيه الهياكل والمؤسسات السياسية شعاعيا لتتفق مع اتجاه المبادئ العامة والدستور‫. وكمبدأ عام فأنه كلما تباعدت المسافة بين نتائج الاستدلال لاستقرائي للمجتمع عن الاستنتاج المنطقي ‫(او اللامنطقي‫) للدولة كلما ازدادت شدة التوتر بين المجتمع والدولة الى أن تصل الى حالة التدهور ومن ثم سقوط الاعتراف بتمثيل الدولة للمجتمع في حال اهمال تقديم المعالجة لهذا التباعد‫. واول دلالات التباعد في الانظمة التي توجد فيها هذه الألية هو حجب الثقة عن الحكومة من قبل السلطة التشريعية ‫(المادة السابعة والسبعون من الدستور السوري الحالي مثلا ‫). أما في حال كانت هيكلية الدولة ـوليس الحكومة ممثلة برئيس الوزراء وليس الوزراءـ بمجملها لا تتحمل مطالب الشعب في  التطوير وتمثيل احتياجاته فإن حجب الثقة عن الحكومة ـ كجهاز تابع للسلطة التنفيذية ‫- لا يمثل حلا للمشكلات المطروحة وانما تصبح إعادة هيكلية الدولة وصياغة العقد الاجتماعي مع مراجعة تفاعل الهيكليات هو الحل وهي الحالة التي تمر فيها سورية الآن‫. أي أن سورية الآن تمر بمرحلة تقارب حجب الثقة عن الدولة وهي خطر يهدد الاستقلال ووحدة الأرض والشعب اذا لم يعالج بكل جدية وعمق‫. وهذه الحالة مرت بها دول عديدة وبالخصوص نذكر منها التجربة الفرنسية في مرحلتها الأولى في المرحلة الثانية من الجمهوريات الثلاث والتي تطورت في ١٩٥٨ الى الجمهورية الخامسة المستمرة الى الآن‫. الحكومات السورية المتعاقبة اعتمدت الطريقة وحيدة الاتجاه في الحكم والقائمة على الاستنتاج المنطقي غالبا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية واعتمدت على الاستنتاج اللامنطقي غالبا في السياسة الداخلية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وامنيا وقضائيا وبيئيا مما أدى الى تباعد وظيفة الدولة عن تمثيلها للمجتمع السوري وتحديدا من خلال سياسة الحزب الواحد وتهميش دور مجلس الشعب وتدمير مبدأ تكافؤ الفرص وانتشار الفساد وانعدام المشاركة الجماهيرية في صنع القرار وفرض تماسك المجتمع مع الدولة امنيا بدل أن يكون هذا التماسك نابعا من تعزيز الشعور الوطني بالانتماء وبدل أن يكون نابعا من تعزيز مبدأ المواطنة والمشاركة الفعالة في حكم الشعب لنفسه‫. ومبدأ الحكم من خلال الاستدلال الاستقرائي مع الاستنتاج المنطقي يؤسس لحكم مبني على العلم بما يريده الشعب وافراده وما تقتضيه المصلحة العامة وكلاهما شرط لتحقيق الديمقراطية من خلال المناخ السياسي التعددي ليساهم ببناء الدولة القادمة ويوفر معايير الاداء والصيانة المستمرة للعلاقة بين المجتمع والدولة‫.

المبدأالثاني يكمن في تفعيل الديمقراطية بحيث تضمن حرية المواطن وتحفظ النظام معا ومن جهة اخرى تضمن حرية المواطن والعدالة الاجتماعية‫. وهناك تعارض طبيعي بين الحرية الفردية والمصلحة الجماعية‫. وسواء كان تطبيق الديمقراطية من خلال الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية التمثيلية فأن التعارض الحقيقي يتمثل في تبني الديمقراطية الاجرائية أو الديمقراطية الموضوعية‫. الديمقراطية الاجرائية تعتمد على أربعة اسس‫: المشاركة الشاملة‫، المساواة  السياسية في وزن كل صوت، حكم الأغلبية في التصويت، وتجاوب ممثلي الدولة مع الرأي العام . أما الديمقراطية الموضوعية فتركز على المبادئ وليس الاجراءات وتعتمد على تثبيت مبادئ الحقوق المدنية بما فيها حرية الدين والمعتقد والتعبير وحماية الحقوق الاجتماعية الاساسية‫. وهناك فرق في مصطلح الأقلية في هذا السياق‫. فالأٌقلية في سياق التصويت الديمقراطي هي اقلية تصويتيه وليست اقلية عرقية أو دينية‫. ومعظم تطبيقات التصويت الديمقراطية تتعلق بالأمور الناظمة لحياة المواطنين مثل شق طريق في مدينة ما أو السماح بفرض ضرائب جديدة بما يتوافق مع الرأي العام‫. وعلى ما يبدو فإن هناك تخوف من بعض الافراد في الاقليات العرقية والدينية السورية من تطبيق مبادئ الديمقراطية في سورية لأن ذلك قد يقود الى حكم الاغلبية‫. وفي الوقت نفسه تلتقي هذه المخاوف مع القوى العلمانية السورية التي ترفع شعار فصل الدين عن الدولة الا أنها تتوقف في تبني العلمانية عند هذا الشعار ـ أي أنها لاتمضي في تطوير عملية الحكم نحو الديمقراطية كما انها لاتعمل ـ كحركات سياسية وليس أفراد ـ على فصل السلطات‫. ومن هنا تقترن العلمانية السورية في ذهن الكثير من السوريين بمعاداتها للدين وللاسلام تحديدا مع عدم جدواها في الحياة السياسية الفعلية‫. وهذا التخوف يؤدي الى تمحور القوى في مكان يتناقض مع أسس الديمقراطية بأي من اشكالها من حيث عدم الرغبة في تطوير آليات الديمقراطية مما يكرس حكم الاقلية التصويتيه وأهمال رأي الاغلبية‫. واما الدولة التي تتبنى سياسة الحزب القائد للأحزاب المرخص لها بالعمل السياسي فإنها لاتحتاج الى العملية الديمقراطية لانها مصدر ازعاج حيث تهدد مصالح الحزب والاحزاب المرافقة ـ كل حسب وزنه السياسي ـ وتتطلب مشاركة الشعب في صنع القرار ومشاركته في تقاسم الثروة وتعطي الشعب المقدرة على محاسبة المسؤولين وتقوض الدولة الموازية المنتفعة ‫باعتماد الشفافية. واما قوى الاسلامويين فهي ايضا وعموما لاترى من فائدة في معرفة رأي الشعب الا الاستئناس مادام الفقهاء قادرين على اصدار الفتاوى يمينا وشمالا بغض النظر عما اذا كانت القضية تتعلق بالامور الدنيوية وبما ينفع الناس‫. إذن من هم هؤلاء الذين يريدون الديمقراطية في سورية القادمة؟ الجواب بسيط جدا وهو ما تبقى من الكتل السياسية السورية بعد طرح الفئات المستفيدة من التفرد بالسلطة أو التي ترى في الديمقراطية تهديدا لها ولو كان مغلوطا‫. وهذه الكتل السياسية المهمشة هي التي سوف تتبنى الديمقراطية السورية وتتلخص في كتلتين وهما اليساريون الديمقراطيون واليمينيون الديمقراطيون وهم لازالوا يشكلون أغلبية الشعب من الذين لا يريدون إلغاء أحد من  السوريين ولا تهجيرهم ولا قتلهم ويعتبرون الطائفية تمييزا تقسيميا هداما لا يفيد الدين ولا الدنيا ويتعارض مع حرية الاعتقاد ويعتبرون التفضيل العرقي تمييزا عنصريا ويضعون المواطنة كأساس لبناء سورية‫.

المبدأالثالث الذي نبني عليه هو الاتفاق على أن النظام السياسي في سورية نظام جمهوري‫. ومن حيث البدائل فقد طرح بعضهم فكرة الفيدرالية كمخرج للأزمة على غرار ما حدث في العراق حيث استقرت الأمور حاليا على وجود ١٥ محافظة واقليم واحد فيدرالي هو اقليم كردستان العراق‫. ونرى بما لا يقبل مجالا للشك أن طرح الفدرالية  في بلاد العرب بهذا المفهوم التجزيئي هو بحد ذاته تهيئ نفسي لقبول التقسيم الجديد لتحقيق أهداف بعيدة المدى بينما طرحت فكرة الفدرالية اصلا في بلاد كثيرة لتجميع المجزأ وتعزيز القوى‫. فمثلا من الممكن ان نطرح فكرة فيدرالية سورية ـ لبنانية  أو سورية ‫ـ عراقية أو سورية ـ مصرية على بساط البحث وذلك لأنها تجمع المجزأ وتعزز اواصر التعاون بين الشعوب المجاورة ولو من قبيل المصلحة التجارية المتبادلة فقط. ولكن فكرة الفدرالية بين محافظات سورية هي فكرة تقسيمية تمنع الوحدة الوطنية وتعمق الشروخ الطائفية وتفتح مجالا واسعا لتدخلات خارجية بعد اشعال الحروب التنافسية بين الولايات وتؤدي في نهاية الأمر الى التقسيم المطلوب. والمعول على السوريين الواعيين رفض اي مشاريع في ذلك الاتجاه. الفيدرالية في تجميع المجزأ تؤسس للوحدة العربية وهي مطلوبة عندما تحين الظروف المناسبة بينما يعد طرح الفيدرالية ضمن اي بلد عربي تأسيسا للتقسيم وضربا للوحدة الوطنية وابعادها اميالا عن اي أمل في وحدة اشمل ولو كانت من قبيل الفدرالية الاقتصادية بين الدول القائمة حاليا.

أما فيما يتعلق بمنصب الرئاسة كمؤسسة من مؤسسات الدولة فإن المساس بمنصب الرئاسة خارج الطرق الدستورية هو اعتداء على الشعب الذي تمثله. وأما أن يأتي أمر أو فرمان بتغيير رئيس سورية من أي قوة خارجية فهو اعتداء صريح على السيادة الوطنية وعلى الشعب وإن حصل فإن اي رئيس سوري من بعده يمكن عزله من قبل قوى خارجية‫. وعلى الطرف الآخر من الممكن نظريا فقط أن يطالب مجلس الشعب بعزل الرئيس ضمن اجراءات دستورية لا يمكن تحقيقها  في الوضع الحالي لان منظومة الدولة لا تسمح بها كما سيأتي تفصيله‫. ووضوح آلية عزل الرئيس في المستقبل والثقة بها من حيث نزاهة المنظومات الأمنية والاجراءات ـ على ندرة استعمالها ـ يوفر صمام امان دستوري للشعب يكون التغيير فيه سوريا بحتا بدل أن تؤدي الاحتقانات الداخلية الى التدمير الذاتي‫. أي أننا في سوريا المقبلة من الممكن أن نرى رئيسا يقدم للعزل من قبل مجلس الشعب ‫( انظر المبدأ الخامس فقرة ٣ في هذه الورقة‫) ومن دون أن تصطدم المنظومات الأمنية ببعضها‫.

وفي هذا السياق فإن سورية لم تمارس بعد التداول السلمي للرئاسة ‫(مرة واحدة ولكن ليس لرئيس سوري منتخب‫) ويتحقق ذلك عندما ترى رئيسا سوريا سابقا ‫”يأكل الطعام ويمشي في الاسواق‫“ وعندما ترى رئيسا انتهت مدة ولايته يسلم الامانة الوطنية الى من يليه ويبقى همه المساهمة في تطوير البلد وتعزيز نموها‫. الرئاسة مهمة تكليفية وتشريعية صعبة ذات مدة محددة‫. وتحديد هذه المدة له أهداف وليس عبثا وانما ومن خلال التجارب الانسانية في الحكم تبين أن مدة الحاكم اذا طالت فقد تسمح بنشوء تحالفات داخل انظمة الدولة تقود الى الفساد الممنهج والديكتاتورية‫. وأما من حيث الانتخابات الرئاسية القادمة فإن الحكم فيها يتعلق بالظروف الأمنية على الأرض قبيل وقت الانتخابات مع وزن عوامل الخطورة النظمية على استمرارية الدول السورية‫.

المبدأالرابع هو فصل السلطات المقرر في الدستور الحالي‫. وهذا المبدأ لم يطبق في الحياة الدستورية منذ الاستقلال الى الآن‫. ولشرح ذلك نلاحظ أن الدولة السورية في هيكليتها الحالية لا تستطيع تحقيق فصل السلطات على الأرض حتى لو أرادت ذلك كما يقتضي الدستور الحالي‫. اذ من غير الممكن تفعيل فصل السلطات في ظل منظومة المنظومات السياسية والامنية القائمة حاليا وذلك لأن الهندسة النظمية التي تقوم عليها المنظومات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتداخلها مع المنظومات الامنية لا يمكنها ان تطبق هذه المبدأ من دون أن تصطدم ببعضها اصطداما يخرجها جميعا خارج الاحتكام الى القانون النابع من الدستور‫. وسبب ذلك أن الهندسة النظمية للدولة السورية الحالية تفرض آليات وادوات وطرق اتصال وتعرف الادوار والهيكليات التنظيمية والهرميات الادارية والاجراءات القضائية والتبعات المالية والموازنات والمدفوعات ‫… كما تحدد الهندسة النظمية الحالية العلاقات مع المنظومات التابعة للسلطات لكل هيئة رسمية تعمل في الدولة ‫. وهذه الهندسة النظمية السورية لم تصمم اصلا على مبدأ فصل السلطات فضلا عن الاتجاه في تقوية فصل السلطة الرابعة أو سلطة الإعلام وفصل ذلك عن السلطات الأمنية المتعددة‫. ولتقريب هذه المشكلة وشرحها بمثال بسيط فان الفرق بين دمج السلطات هندسيا ونظميا وفصلها شبيه بهندسة حاسوب ذي معالج مركزي واحد يحتوي ملفات ثلاثة كمنظومة واحدة او هندسة حاسوب واحد ينظم العلاقات بين ثلاث معالجات متوازية ومتساوية في الأفضلية والاستقلالية والقوة الحسابية والتحكم ومختلفة في اختصاص ما تعالج من بيانات‫. لايمكن إعادة هندسة الحاسوب  احادي ‫ـ المعالجة    ليفعل ما تفعله المنظومة متوازية ـ المعالجات لا من حيث السرعة ولا الاستقلالية ولا الاداء ولا احتمال خلط البيانات‫. كما ان هذا الحاسوب احادي ـ المعالج لا يصبح متوازي ‫ـ المعالجات من خلال اصدار مرسوم بحقه يعيد تصنيفه. الحاسوب السياسي السوري مصمم على اساس احادي ـ المعالج ويحتاج الى اعادة هندسته ليشكل منظومة منظومات متوازية ـ المعالجات الاختصاصية. إعادة هندسة المنظومات السياسية اولية من اوليات اعادة بناء الدولة ويتوقف على هذه الخطوة ونجاحها كل المشاريع اللاحقة في إعادة بناء سورية.

المبدأالخامس الذي نبني عليه هو مبدأ التوازن بين القوى والمصالح المحلية منها والوطنية في تشكيل السلطة التشريعية في التمثيل الديمقراطي. فمجلس الشعب بتركيبته الحالية لا يكفي لتمثيل رؤية المواطنين المحلية في المحافظات والمنبثقة عن المناطق في تلك المحافظات والمتشكلة من مجموعة نواحي في كل منطقة. وحسب قانون الادارة المحلية السوري الحالي فأن المناطق تسمى وتعين مراكزها بمرسوم رئاسي مبني على اقتراحات من وزير الادارة كما أن مدير المنطقة يمثل السلطة التنفيذية من حيث أنه يتبع لمكتب المحافظ ولوزير الداخلية ويشرف على الضابطة العدلية والادارية.  يوجد في سورية ٦٤ منطقة تتفاوت في المساحة وعدد السكان بشكل كبير وتشمل ريف دمشق ١٠ مناطق ومحافظة حلب ١٠ مناطق وحمص ٧ مناطق وحماة ٥ مناطق واللاذقية ٤ مناطق ودير الزور ٣ مناطق والحسكة ٤ مناطق وادلب ٥ مناطق وطرطوس ٥ مناطق والرقة ٣ مناطق ودرعا ٣ مناطق والسويداء ٣ مناطق والقنيطرة منطقتان. وتحتوي كل منطقة اداريا على عدد من النواحي التي يبلغ مجموعها ٢٨٠ ناحية ( لا يقل عدد سكان الناحية عن ٢٥٠٠٠ نسمة ). ولكل ناحية مدير يتبع لمدير المنطقة ويمثل السلطة التنفيذية ويتولى مهمة رئاسة قوى الأمن الداخلي في الناحية مع الاشراف على الضابطية العدلية والادارية . وأما مجلس الشعب السوري فهو السلطة التشريعية السورية ومن مهامه اقرار الموازنة العامة وتصديق المعاهدات الخارجية وأمور الحرب والسلم ومساءلة الوزراء وحجب الثقة عن الحكومة. وينتخب مجلس الشعب بالاقتراع العام والمباشر وعلى اساس الأغلبية البسيطة لدورة مدتها اربع سنوات ممثلا للمحافظة وقد ظل المرشحون محصورين في الجبهة الوطنية التقدمية منذ ١٩٧٣ مع أغلبية المقاعد لحزب البعث العربي الاشتراكي والجبهة الوطنية التقدمية ‫اعطيت ١٦٨مقعدا حاليا‫. وحتى تعديل النظام الانتخابي في ٢٠١٢ حيث اعطى الثلث من المقاعد للمستقلين ( ٧٧ مقعدا حاليا ) و ٥ مقاعد اخذتها الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يمكن لهذه المنظومة الادارية التشريعية أن توصل صوت الشعب للمشاركة في الحكم؟ الجواب ببساطة لا يمكن لهذه المنظومة أن تفعل مشاركة الشعب في الحكم. بل ابعد من ذلك أن هذه المنظومة تمنع وصول صوت الشعب الى الحكم لانها من حيث المناطق والنواحي تابعة للجهاز التنفيذي اي تعين تعيينا يتبع وزارة الداخلية مباشرة. كما انها تكرس عدم فصل السلطات بإشرافها على الضابطية العدلية في كل منطقة وناحية. بقي لدينا مجلس الشعب الذي ينتخب على مستوى كل محافظة وهذا جيد. ولكنه يحدد من حيث الانتماء الحزبي وليس بناء على المواصفات والمهارات الادارية والسيرة الذاتيه على الأقل في ثلثي الحالات ولربما كان مرشح الجبهة مستحقا لمنصبه الا ان الآلية التي تعطيه هذه الأفضلية تشكك في هذا الاستحقاق وتتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور. من ناحية أخرى فأن المهام المعطاة لمجلس الشعب لا تسمح له بمناقشة خصوصيات المناطق بما فيها حقها من العناية التي يعول عليها المواطن خاصة المناطق البعيدة عن مراكز التأثير والتي ربما لم تسمع بممثلها في مجلس الشعب لأنه لم يعد يحتاج لصوتها ليزورها. وفي هذه الورقة المقتضبة نقترح إعادة تشكيل السلطة التشريعية على الشكل التالي:

  1. ان تتضمن الدولة القادمة مشروع مجلس وطني يتم انتخابه انتخابا مباشرا دون شرط حزبي من كل ناحية ‫( مجموع أعضاء المجلس ٢٨٠ عضو‫) ليمثل مباشرة المواطنين السوريين كل في ناحيته‫.
  2. يحدد الدستور هيئة ومهام المجلس الوطني ويكون جزءا من السلطة التشريعية مع مجلس الشعب ويختص في دقائق تفعيل الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار وحماية حريات المواطنين وسيادة القانون ونشر العدالة الاجتماعية والمساواة والرقابة على اجهزة الدولة واقرار الموازنة العامة ونظام الضرائب مع مجلس الشعب‫.
  3. أن تقتصر التشريعات على السلطة التشريعية اي على ما يصدر من مجلس الشعب بالتوافق مع المجلس الوطني بالتصويت على مشاريع القوانين وأن تلغى المراسيم الرئاسية التشريعية وان يختص المجلس برفع قضايا العزل بينما يفصل فيها مجلس الشعب‫.
  4. تشكل من المجلس الوطني لجان متخصصة لمتابعة الشؤون الوطنية بما فيها قضايا التوعية والتعليم والزراعة والتجارة والصناعة والامن الوطني والغذائي والمياه والشرطة والجيش وتوازن بين المصلحة المحلية والوطنية وتتفاعل مع النقابات المقابلة‫.

وأما على المدى القصير في حل الازمة والتقريب بين وجهات النظر ودفع المصالحة الوطنية فإن الدعوة الى انشاء المجلس الوطني التأسيسي يجب أن تبدأ الآن‫. بمعنى أن تنتخب كل ناحية ممثلا عنها ليشارك في مؤتمر تأسيسي سوري يناقش فيه الأمور العالقة في كل ناحية ويخرج بحلول مرحلية ويعرف قانونه الداخلي ويجب أن يتم ذلك بمساعدة تنظيمية وتنسيق مع مجلس الشعب الحالي‫. ومع أن هناك مناطق لن تستجيب مباشرة ولكنها ستستجيب بالنهاية إن رأت تكتلا عاما واجماعا يتبلور على الأرض مع أمل بحلول واقعية ورؤية نابعة من رغبة في البناء لغد أفضل‫.

 


ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟